مستخدم:محمد نصر العقاد

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

مفهوم الثقافة العلمية

     لقد أفرد تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003 قضية بناء مجتمع المعرفة والمعوقات والاشكالات التي تعترضها في المجتمعات العربية، على اعتبار أن المعرفة هي أحد ثلاثة عناصرأساسية، تؤلف فيما بينها استراتيجية التنمية الإنسانية في الوطن العربي التي يتبناها التقرير. فالمعرفة  اكتسابا وإنتاجا وتوظيفا، غدت في مطلع القرن الحادي والعشرين هي الوسيلة الكفيلة بتحقيق التنمية الإنسانية الشاملة في جميع المجتمعات المعاصرة. 

ويطلق الآن بصورة متزايدة وصف "مجتمع المعرفة" للتعبير عن مجمل التغيرات الهائلة التي يشهدها المجتمع البشري في المرحلة الراهنة ، ولهذا يؤكد تقرير التنمية الإنسانية أن المعرفة بجميع أنواعها وصورها قد غدت طريقا لاسبيل إلى تجاوزه، لأي مجتمع يبتغى تحقيق التنمية في جميع مناحي الحياة. وقد أصبحت المعرفة بصورة غير مسبوقة، محركا قويا يقف خلف معظم التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يشهدها عالم اليوم. فالمعرفة هي غالبا ما ترسم الحدود بين القدرة والعجز، بين المنعة والوهن، بين الصحة والمرض، بين الثروة والفقر، بين العيش تحت براثن الجهل والتخلف وبين التحليق في ذرى المجد والفخار. فقدرت المشيئة الألهية أن يخلق الإنسان وأن يكون خليفة الله في الأرض، يقول تعالى : "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة". ( البقرة : 30 )

    وقد اقتضى القيام بواجب الاستخلاف في الأرض أن يميز الله الإنسان بالعلم والمعرفة، قال تعالى" وعلم آدم الأسماء كلها" الذي سيكون وسيلته لإعمار الأرض والقيام بواجب الخلافة خير قيام. 
   وباعتباره الكائن المفكر الوحيد في هذا العالم، انشغل الانسان منذ الأزل بالتساؤل عن ما يحيط به في الكون والحياة من ظواهر طبيعية واجتماعية وانسانية، وذلك بهدف الكشف عن القوانين والنواميس التي تحكم حركتها. فبقدر معرفته بالسنن والقوانين التي تحكم هذا الكون، استطاع الانسان، بدرجات متفاوتة من النجاح، تسخيرها لما يصلح بها حياته وبقاءه على هذا الكوكب.

فعبر إثارة كوامن ما أودعه الله في العقل البشري من طاقات، تتحرك تفاعلات العلم والمعرفة وتتطور مع تطور الحياة وتغير الظروف التي يعيشها الإنسان، فلا يمكن للإنسان ومن ثم المجتمع أن ينمو ويتطور في ظل سكون المعرفة وجمود العقل. وعندما يتوقف الإنسان عن اكتساب العلوم والمعارف المختلفة ــ وهما المفتاح الحقيقي لبوابة الثقافة العلمية ــ يتوقف العقل عن التفاعل الحي مع تطور العالم الخارجي، ويصبح حينئذ عاجزا عن اكتساب الخبرات المفيدة ويفقد من ثم القدرة على إدراك الحياة إدراكا واعيا وسليما. فكما أن الجسم البشري يحتاج إلى الهواء والطعام والشراب للبقاء، تحتاج مسيرة المجتمع وتقدمه إلى اكتساب المعارف المتنوعة وتحصيل العلوم المختلفة التي تفتح للإنسان أبواب الخير والسعادة والنمو والازدهار. وقد استطاع الإنسان، منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، تسخير ما في الكون لما يصلح به حاضره ومستقبله. وكان شرط نجاحه دائما هو فهم ومعرفة السنن والنواميس التي تحكم الظواهرالطبيعية والإنسانية والاجتماعية المبثوثة في هذا الكون الفسيح. وهذا أمر مشروط بدرجة التطور الاجتماعى في اتجاه الوعي بأهمية الأخذ باسباب العلم ومناهل المعرفة.

 وعبرهذا التاريخ الطويل، تراكمت المعلومات والخبرات والتجارب عبر ملايين السنين، والتى حصلها الإنسان عبر الاحتكاك العملى بينه وبين مختلف الظواهر الطبيعية والإنسانية والاجتماعية من حوله. وعبر الملاحظة والتجربة واستخدام المنهج العلمي والاستفادة من التراكم المعرفي وصل الإنسان إلى ما وصل إليه من تقدم مذهل فى علاقته بالطبيعة والكون والحياة. وهي مجمل الاليات التي تنتهجها الثقافة العلمية في طريقها نحو التأصيل ومن ثم التفاعل بين أفراد المجتمع . 
    وعلى هذا يمكن وصف مجتمع المعرفة، حسب ماجاء في تقرير التنمية الإنسانية بأنه "ذلك المجتمع الذي يقوم بصورة أساسية على إنتاج المعرفة ونشرها وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي: السياسة والاقتصاد والمجتمع المدني، وكذلك الحياة الخاصة، وصولا للارتقاء بالإنسان إلى بلوغ الغايات السامية التي يسعى اليها، والمتمثلة في الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية" . و من البديهي، أن تتأثر حدود المعرفة الإنسانية ومداها وعمقها بما حولها من مؤثرات عدة، منها على سبيل المثال مستوى الحضارة الإنسانية:
    لاشك أن هناك علاقة قوية بين مستوى المعرفة والمستوى الحضاري الذي وصلت اليه البشرية في المراحل التاريخية المختلفة. وعادة ما يقاس مستوى الحضارة الذي وصلت اليه المجتمعات البشرية المتعاقبة من خلال دراسة مستوى التراكم المعرفي التي استطاعت تحقيقه. ويدل منحنى التاريخ الإنساني أنه كلما زاد رصيد المعرفة البشرية، كلما ارتقت  مستويات  الحضارة الإنسانية. فمن الصعوبة بمكان تحقيق أي انجاز حقيقي على صعيد الحضارات الانسانية المتعاقبة من دون احراز تقدم ملموس على صعيد المعرفة الانسانية، فلولا معرفة اساليب البناء والعمارة لما تمكن المصريون القدماء  من إقامة الأهرام وكذلك اليمنيون، من إقامة سد مأرب وبناء حضارت كالفرعونية والسبئية. 
    إن عملية إخراج الأمة ونهوضها وبنائها الحضاري، ومن ثـمّ تحقيق شهودها الحضاري،  تتطلب الكثير من الإدراك والفهم والوضوح والإفادة من التجارب، على مستوى الذات و(الآخر)، والقدرة على استلهام القيم ووضع الآليات والبرامج لكيفية تنـزيلها على واقع الناس. 

فالسبيل الوحيد لإخراج الأمة، أو لمعادوة نهوضها وإخراجها، هوالثقافة والتربية والتعليم، واكتساب المهارات المعرفية والسلوكية والنفسية، فالله تعالى يقول: ((... يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ.. )) (الجمعة:2).

    فالتلاوة والخطاب العام والجماهيري، والنقل الثقافي، مهما طرح من الدلائل والبراهين، وحقق من القناعات، فلا يغني في الحقيقة، سواء بالنسبة لطبيعته أو بالنسبة لشرائح التلقي عن التربية للشخصية والنفسية، وبناء العقلية، وتنمية المشاعر، وصقل المواهب، وتزكية النفس، وتأصيل دوافع الخير، والحيلولة دون نوازع الشر، وإكساب المهارات، والتدريب على الوظائف التي تنمي العقل من التفكير والمقارنة والقياس والاستنتاج والاستقراء، والتدريب والتعليم على المعاني الخيرة لتصبح سجية وطبعاً، والارتقاء والنمو في ضوء منهج مدروس ومتدرج، يأخذ في اعتباره العمر العقلي، والكوامن النفسية، والقدرة الذهنية، والمناخ الثقافي، والواقع الاجتماعي للمتلقي. 
   إنها باختصار تعني الثقافة العلمية وممارستها كأحد الأطروحات المختارة لوضع الحلول أمام ما تعانيه الأمة من تراجع و تأخر ملحوظين عن مسيرة العطاء العلمي والثقافي وأزمة لا يمكن التغافل عنها في سياق المناظرة وعقد المقارنة بين المجتمعين العربي والغربي ، وعندما نتناول مفهوم الثقافة في كل من اللغتين العربية والإنجليزية  نلاحظ  نوعا من الالتقاء  بين المفهوم اللغوي والاصطلاحي  في العديد من النقاط ، التي قد تفيدنا  في الإجابة عن العديد من التساؤلات النظرية ، بينما يختلف المفهومان في جوانب أخرى ، فإذا تسألنا مثلا ، كيف ومتى تم الانتقال من مفهوم الثقافة عامة إلى مفهوم الثقافة العلمية ؟  وما المراحل والملابسات التي واكبت تلك التغيرات؟ وما موقف إنسان القرن الحادي والعشرين تجاه تلك المتغيرات المرحلية لمفهوم الثقافة عامة ومفهوم الثقافة العلمية على وجه الخصوص ؟ وما عوامل التأثير والتأثر المسؤلة عن تنمية تلك الثقافة  في مجتمع ما، وعرقلة ذلك النمو لدى مجتمع آخر ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي نجد الجواب عنها في مراحل  تطور دلالات المفهوم لغويا واصطلاحيا .      
فعلى الرغم من سيادة لفظ " ثقافة " كمرادف للفظ الإنجليزية " Culture" ، إلا أن ذلك لا يمنع من وجود اختلاف  في الدلالات الأصلية بين المفهومين ، فنجد أن" الثقافة " في اللغة العربية من الفعل "ثقف"  أي حذق وفهم وضبط ما يحويه وقام به ، وكذلك تعني : فطنُ ذكيُ ثابتُ المعرفة بما يحتاج إليه ، وتعني : تهذيب وتشذيب وتسوية من بعد اعوجاج ، وفي القران الكريم : بمعني أدركه وظفر به كما جاء في قوله تعالى : " ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا "(الأحزاب : 61).( )

اتجاهات ترجمة المفهوم للعربية :

    مع بداية الاتصال الفكري والمعرفي بين المجتمع العربي والمجتمعات الأوروبية انتقل مفهوم "Culture" إلى القاموس العربي واتخذت الترجمة اتجاهين :

1- اتجاه ترجمة مفهوم "Culture" إلى اللفظ العربي " ثقافة " فكان سلامة موسى- في مصر- من أوئل من أفشى لفظ ثقافة مقابل "Culture"- وقد تأثر في ذلك بالمدرسة الألمانية في تعريف ربط الثقافة بالأمورالذهنية، حيث عرّف الثقافة بأنها هي المعارف والعلوم والآداب والفنون التي يتعلَّمها الناس ويتثقفون بها، وميَّز بين الثقافة "Culture" المتعلقة بالأمور الذهنية والحضارة "Civilization" التي تتعلق بالأمور المادية. ( )

   ولقد عرفت اللفظة العربية بنفس المضمون الأوروبي للمفهوم، مما شجع الدعوة إلى النقل   والإحلال للقيم الغربية محل القيم العربية والإسلامية انطلاقا من مسلمات الانتشار الثقافي والمثاقفة.

2- اتجاه ترجمة "Culture" إلى اللفظ العربي " حضارة " وهو اتجاه محدود برز في كتابات علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا العرب في ترجماتهم للمؤلفات الأوروبية في هذين الحقلين، ويبرز ذلك في بعض كتابات رفاعة و طه حسين وأمين الخولى و زكي نجيب محمود من مصر، وأحمد اركوان والجابري من الجزائر، وفي المقابل ترجموا لفظ "Civilization" باللفظ العربي "مدنية" اللفظة العربية "ثقافة" هي الترجمة السائدة للكلمة الإنجليزية "Culture"، وتعود جذور الكلمة الإنجليزية إلى اللفظ اللاتيني "Culture" ويعني حرث الأرض وزراعتها، وقد ظلت اللفظة مقترنة بهذا المعنى طوال العصرين اليوناني والروماني.( )

     وفي فترة لاحقة، استخدمها المفكر اليوناني "شيشرون" مجازًا بالدلالات نفسها، حين أطلق على الفلسفة "Mentis Culture" أي زراعة العقل وتنميته، مؤكدًا أن دور الفلسفة هو تنشئة الناس على تكريم الإلة . وفي عام 1871م  قدم إدوارد تيلور تعريفًا لهذا المفهوم في كتابه "Primitive culture"، حيث اعتبره "ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعُرف وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بصفته عضوًا في مجتمع ما" 
   وبانتقال مفهوم "Culture" إلى "Kultur" الألماني اكتسبت الكلمة مضمونًا جماعيًا، فقد أصبحت تدل على التقدم الفكري الذي يحصل عليه الفرد أو المجموعات أو الإنسانية بصفة عامة. بناءً على ذلك عالج المفكرون الألمان العلاقة بين علوم الـ  Culture" والعلوم الطبيعية  من ناحية أخرى اتجه المفكرون الإنجليز إلى النظر في التطبيقات العملية لمفهوم Culture في المسائل السياسية والدينية، لذلك عرّفها كلايد كلوكهون بأنها: مجموعة طرائق الحياة لدى شعب معيّن في الميراث الاجتماعي التي يحصل عليها الفرد من مجموعته التي يعيش فيها الانتشار الثقافي.. وهم استعماري . ( )
   وقد تشعب المفهوم وأصبح جزءا من العلوم الاجتماعية وخاصة علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية، والذي عليه تقوم افتراضات النظريات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية حول تاريخ المجتمعات وتطورها وصورها السابقة والقوانين التي تحكمها ،ويتخذ علم الأنثروبولوجيا مفهومي (Culture Civilization) جوهرا أساسيا لمقولاته ونظرياته وينطلق علم الأنثروبولوجيا من ثلاث قواعد أساسية تنبع منها نظريات علمائه ، وهذه القواعد هي :) )

1- المجتمعات تسير في نسق تطوري في نمط متصاعد ؛ انطلاقا من الحالة البدائية الأولى التي وجد عليها الإنسان في مرحلة ما بعد انفصاله عن عالم الحيوان إلى المرحلة الراقية التي وصل إليها المجتمع الأوروبي المعاصر، والذي يقع على قمة السلم التدريجي، ويتم تقسيم المجتمعات طبقا لمعايير نابعة من الــ" Culture" . ولذلك ظهرت مفاهيم مثل : التحديث، واللحاق بالركب . 2-الـــــ" " Culture تنشأ في مجتمع معين ثم تنتشر في المجتمعات الأخرى، فيما يطلق عليه "الانتشار الثقافي"، أي انتقال الثقافة من المجتمع الأكثر رقيا إلى المجتمع الأدنى أو الأقل تطورا، وتحت هذا المعنى برزت مفاهيم مثل : مسألة الرجل الأبيض والثورات الثقافية" Acculturation" أي التثاقف أوالمثاقفة، ويقصد بها تأثر الثقافات بعضها ببعض نتيجة الاتصال بينها، أيا كانت طبيعة هذا الاتصال أو مدته، ولقد عرف "مليفن هرسكوفيتز" التثاقف بأنه: التغيير الثقافي في تلك الظواهر التي تنشأ حين تدخل جماعات من الأفراد الذين ينتمون إلى ثقافتين مختلفتين في اتصال مباشر، مما يترتب عليه حدوث تغييرات في الأنماط الثقافية الأصلية السائدة في أحدى الجماعتين أو فيهما معا ، وغالبا ارتبط هذا المفهوم بالدور الاستعماري للغزاة الأوروبيين في إفريقيا . 3- يعتبر التطور في مفهوم "Culture" نتيجة منطقية للجذر اللاتيني له، حيث يعبر عن طبيعة الإنسان الأوروبي ودوره في العصور الحديثة تجاه المجتمعات غيرالأوروبية، فطبيعة الإنسان الأوروبي أنه صاحب حضارة زراعية يستمد منها رموزه الفكرية، ومن ثم فليس غريبًا إذا ما تعاظم إنتاج الفكر وبدأ غرس القيم الجديدة وحصد ثمار النهضة أن يطلق الإنسان الأوروبي لفظ "Culture" على هذه العملية. وأما عن دوره تجاه المجتمعات الأخرى فهو مفهوم يعبر عن عملية زرع القيم والأخلاق والمؤسسات الأوروبية في المجتمعات الأخرى تمهيدًا لحصاد هذه المجتمعات سواء عقول مبدعة تهاجر إلى المجتمع الأوربي ، أو موارد اقتصادية تغذي عجلة اقتصاده.( )

   ومن خلال هذه الدلالات يمكن تحديد أبعاد المفهوم كالآتي : 

1- إن مفهوم " الثقافة " في اللغة العربية ينبع من الذات الإنسانية ، ولا يُغرس فيها من الخارج. ويعني ذلك أن الثقافة تتفق مع الفطرة، وأن ما يخالف الفطرة يجب تهذيبه، فالأمر ليس مرده أن يحمل الإنسان قيمًا- تنعت بالثقافة- بل مرده أن يتفق مضمون هذه القيم مع الفطرة البشرية. 2- إن مفهوم "الثقافة" في اللغة العربية يعني البحث والتنقيب والظفر بمعاني الحق والخير والعدل، وكل القيم التي تُصلح الوجود الإنساني، ولا يدخل فيه تلك المعارف التي تفسد وجود الإنسان، وبالتالي ليست أي قيم وإنما القيم الفاضلة ، أي أن من يحمل قيمًا لا تنتمي لجذور ثقافته الحقيقية فهذه ليست بثقافة وإنما استعمار وفناء في قيم الآخر.

3- إن مفهوم "الثقافة"  يركز في المعرفة على ما يحتاج الإنسان إليه طبقًا لظروف بيئته ومجتمعه، وليس على مطلق أنواع المعارف والعلوم، ويبرز الاختلاف الواضح بين مفهوم الثقافة في اللغة العربية ومفهوم "Culture" في اللغة الإنجليزية، حيث يربط المفهوم العربي الإنسان بالنمط المجتمعي المعاش ، وليس بأي مقياس آخر يقيس الثقافات قياسا على ثقافة معينة مثل المفهوم الإنجليزي  القائم على الغرس والنقل ، وبذلك فإنه في حين أن الثقافة في الفكر العربي تتأسس على الذات والفطرة والقيم الإيجابية، فإنها في الوقت ذاته تحترم خصوصية ثقافات المجتمعات، وقد أثبت الإسلام ذلك حين فتح المسلمون بلادًا مختلفة فنشروا القيم الإسلامية المتسقة مع الفطرة واحترموا القيم الاجتماعية الإيجابية.( )

4- أنها عملية متجددة دائمًا لا تنتهي أبدًا، وبذلك تنفي تحصيل مجتمع ما العلوم التي تجعله على قمة السلم الثقافي؛ فكل المجتمعات إذا استوفت مجموعة من القيم الإيجابية التي تحترم الإنسان والمجتمع، فهي ذات ثقافة تستحق الحفاظ عليها أيَّا كانت درجة تطورها في السلم الاقتصادي ، فلا يجب النظر للمجتمعات الزراعية نظرة دونية، وأن تُحترم ثقافتها وعاداتها. 5- إن الثقافة يجب أن تنظر نظرة أفقية تركيبية وليست نظرة رأسية اختزالية؛ تقدم وفق المعيار الاقتصادي -وحده- مجتمع على آخر أو تجعل مجتمع ما نتيجة لتطوره المادي على رأس سلم الحضارة ، وقد أدت علمنة مفهوم الثقافة بنقل المضمون والمحتوى الغربي وفصله عن الجذر العربي والقرآني إلى تفريغ مفهوم الثقافة من الدين ، وفك الارتباط بينهما وفي الاستخدام الحديث صار المثقف هو الشخص الذي يمتلك المعارف الحديثة ، ويطالع أدب وفكر وفلسفة الآخر، ولا يجذر فكره بالضرورة في عقيدته الإسلامية إن لم يكن العكس تمامًا.

     ويجب التنبيه هنا إلى أن وضع المثقف كرمز "تنويري" بالفهم الغربي في مواجهة الفقيه، ففي حين ينظر للأخير بأنه يرتبط بالماضي والتراث والنص المقدس ، ينظر للأول -المثقف- بأنه هو الذي ينظر للمستقبل و يتابع متغيرات الواقع ويحمل رسالة النهضة ، وبذلك تم توظيف المفهوم كأداة لتكريس الفكر العلماني بمفاهيم تبدوا إيجابية ، ونعت الفكر الديني - ضمنا -  بالعكس، وهو ما نراه واضحًا في استخدام كلمة الثقافة الشائع في المجال الفكري والأدبي في بلادنا العربية والإسلامية؛ وهو ما يتوافق مع نظرة علم الاجتماع وعلم الاجتماع الديني وعلم الأنثروبولوجيا إلى الدين باعتباره صناعة إنسانية وليس وحيا منزلاً، وأنه مع التطور الإنساني والتنوير سيتم  تجاوز الدين والخرافة.( ) 
     أما في المنظور الإسلامي فمثقف الأمة هو المُلمُّ بأصولها وتراثها والمطلع على الجديد من المعارف والعلوم من طب وفلك ورياضيات وكيمياء وأحياء وفلسفة ومنطق ولغة  وغيرها من أنواع المعارف التي توصل إليها العقل البشري ، المتفاعل معها والمضيف إليها  فقد حمل لواء الثقافة العلمية عبر التاريخ فقهاء الأمة وكان مثقفوها فقهاء.. وهو ما يستلزم تحريرالمفهوم مما تم تلبيسه به من منظور يمكن فيه معاداة الدين أو على أقل تقدير النظر إليه بتوجس كي تعود الثقافة في الاستخدام  قرينة التنويرالإسلامي الحقيقي، وليس تنوير الغرب المعادي للإله، والذي أعلن على لسان نيتشه موت الإله فأدى فيما بعد الحداثة إلى موت المطلق وتشيؤ الإنسان.( )

محمد نصر العقاد _ الفيوم مصر