مستخدم:رياض بن يوسف

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

بن يوسف رياض

• شاعر من الجزائر. • مواليد عموشة – سطيف 1973.

حاصل على شهادة في:

• ليسانس في الأدب العربي - جامعة فرحات عباس- سطيف- 1995. • ماجستير في الأدب العربي الحديث- جامعة منتوري- قسنطينة- 2001 بتقدير مشرف جدًّا. • يحضر حاليا لشهادة الدكتوراه بأطروحة في حقل الدراسات القرآنية. • حصل على الجائزة الوطنية الثالثة في الشعر- مسابقة نظمتها رابطة إبداع الوطنية- سطيف 1995. • يعمل حالياً كأستاذ مساعد بقسم اللغة العربية و آدابها - جامعة منتوري.

.صدر له ديوان "على مشارف القصوى " عن منشورات أمواج –سكيكدة- الجزائر- في أوت 2005

له من المخطوطات: • موسوعة ميسرة في علمي العروض والقوافي. • أسئلة الراهن وأجوبة الشعر: مقاربات سيميائية للقصيدة الجزائرية المعاصرة( دراسة نقدية موسعة). • ومجموعة أخرى من المقالات وبعض القصص القصيرة.


مختارات من مجموعته القصصية : فضة و ذهب



== الموت صمتا == - قصة قصيرة رياض بن يوسف elkassi70@yahoo.fr


الموتُ صمتًا كانت أمامي بكامل زينتها..بعينيها الخضراوين الناعستين اللتين تزينهما أهداب وطفاء و يعلوهما حاجبان أزجان مقوسان كأن يدا صناعا رسمتهما بدقة هندسية، و في وسط وجهها الملائكي أنف إغريقي دقيق أسفله فم صغير ترصِّعُه كرزتان حمراوان و يحيط به خدان مدبوغان بالثلج و النار.. يحمل كلَّ ذلك السحرِ جيدٌ عاجيٌّ لبنيٌّ، و يتوِّجُه شعر كستنائيٌّ مُذهلُ البريق... و كانت ترتدي غلالةً ورديةً، رقيقةً، شفـّافةً، يضيق بها صدرُها العامرُ وردْفها المرحُ. جالسَةً كانتْ، تضعُ ساقا على ساقٍ فتشفُّ جلستها تلك عن بعض فخذيها و عن كل ساقيها، و بين إصبعين من أصابعها الدقيقة تحمل سيجارة و تدخن بأناقة و بطءٍ. كانت تحدجني بنظرات باسمة و كنتُ أحدقُ إليها بنظرات بلهاء. فجأة وقفتْ، اقتربت مني، داعبتْ أرنبة أنفي بإصبعها، ثم مسَّدَتْ شعري بيدها الرَّخْصة و هي تـُدْني وجهها من وجهي شيئا فشيئا.. أحسسْتُ بالعطر النفاذ يغزو مسام جلدي و بالحمرة القانية تعلو خدّيَّ و جبهتي. فارت دماء الرجولة في عروقي الصدئة.. أردتُ أن أفعل شيئا، أن أحيط خصرها بشِمالي و أدُسَّ أصابع يميني في شعرها الذي بدا مضيافـًا، ثم أنتهبَ فمها لثمًا...لكنني لم أستطعْ.. كنت مشلولا تماما و ذاهلا إلى أبعد حدٍّ. طبَعَتْ قبلةً كبيرةً على ذقني الأملس، ثم قالتْ تخاطبني بشيء من نفاد الصبر: - لقد تأخَّرَتْ كثيرا.. ترى ما الذي أخَّرَها ؟ أردتُ أن أسألها عن تلك التي أقلقها تأخرُها إلى ذلك الحد، و لكن صوتي كان يحتبس دون لهاتي..كنتُ تحت سطوة البريق الأنثوي. أخذتْ تذرع الغرفة جيئةً و ذهابا و تدخنُ ببعض العصبية.. و حين سمعَتْ قرعًا – مُشَفـَّرًا كما بدا- على الباب، هبَّتْ نحوهُ مُسْرعةً. فتحَتْه ُ، فدخلتْ فتاة زنجية حسناء، غليظة الشفتين، ترتدي ثيابا جلدية حمراء. كانت الزائرة طافحة الأنوثة، جميلة كزهرة متوحشة من زهور الجن.. و سرعان ما احتضَنَتْ صاحبتي و قبَّلتْها في فمها قبلةً شرهةً فـَرْقـَعَ صداها في أعماقي، و هي تكاد تغرز أظافرها- الحمراء أيضا- في جيد صاحبتي الأبيض.. ماذا تفعلان أمامي؟؟؟!!!! ولماذا تتجاهلان وجودي إلى هذا الحد؟؟!! حتى أن السوداء لم تكلف نفسها عناء إلقاء تحية عابرة عليّ.. و هذه الجرأة..هذه الوقاحة في اجتراح الشذوذ أمامي.. ما سر كل ذلك؟؟ ألستُ رجلا؟؟ أليستْ لي مهابة الرجال؟؟!!

أردتُ أن أصرخ..أن أنهرهُما.. أن أتقدّم نحوهما فأصفعَ إحداهما و أركل الأخرى.. لكنني لم أستطع، و بدلا من أن يطلق فمي صرخته ظلَّ محتـفظا بابتسامته البلهاء الديوثة..

تعانقتا فوق الأريكة أمام عينيَّ الذاهلتين، و غابتا تماما في بُحران اللذة الآثمة.. السالبُ يعتنق السالبَ.. فيتدفقُ الفيض في الفراغ.. ألا تُدْرك هاتان الحمقاوان الخاطئتان ما هما عليه من ضلال؟!

استجمعْتُ قواي كلها لأنقضَّ عليهما.. لم تطاوعني ساقايَ.. رباهُ! ما هذا العجزُ الأزليُّ ؟! سأقنعُ بالكلام إذن.. ملأتُ رئتيَّ من هواء الغرفة المُدنّس، تكوّرت الكلماتُ العاصفة في حنجرتي.. و أطلقتُ قذيفتي.. لا.. لم ينطلق شيء من جوفي الملتهب، بيدَ أنني فقدْتُ توازني فسقطتُ، أحسسْتُ أن الأرضية الملساء بعيدةٌ جدا عني... هاأنذا أرتطمُ بها فيتهشّمُ رأسي الدّيوثُ... و بينما أنا أحتضرُ سمعْتُ صاحبتي تصيحُ: - آه.. تمثالي الصغير.. .. هدية عيد ميلادي الأخير!!

== سأعبر هذا المدى == - قصة قصيرة رياض بن يوسف elkassi70@yahoo.fr


لم يكن يتكلم كثيرا فلطالما خذلته اللغة و ورَّطتهُ في لعبة الصمت الصاخب. كان يفضل أن يغسل صدأ السؤال- الذي خاتله ذات يوم- بالسباحة والقراءة على شاطئ البحر هاربا من أثاث بيتهم العتيق.. ذلك البيت الذي كان يبدو كدُمَّل حجري في خاصرة الأرض العذراء.. و لكم كان يبدو قزما، ضائعا حين يقارنه بالأفق البعيد الذي تلوح خلاله جبال زرقاء يحيق بها رذاذ كثيف فتغدو صورة شفافة لتمازج الحقيقة و الحلم...و لقد أسَرَّ في نفسه عهدا أن يزور تلك القمم يومًا ما ..في غمرة تلك الرتابة نبت على دربه المستقيم منعرج طارئ.. التفتَ ففوجئ بوجه أبيض جاء يسكب مقلتيه في نخاريب ضجره، فتشققت حُبيبات الرمل، التي طالما وارَتْه، عن رذاذ الندى.. كانت مثله حزينة ضجرة، فاندغم الحزنان و تلاثم الضجران.. وإذ توثقت بينهما عرى المحبة أخذ يفضي ببعض حرقته لشعرها الأشقر الكتوم.. قال لها بحذلقة المُمتنّ: - أنتِ اكتمال سحابي التائه، منذ الأزل، في شتات البدء، و استفاقة ترابي الظامئ بعد أن راعه اغتلام النوء.. ترقرقتْ دمعتان في عينيها فارتسم على عينيه تساؤل عاتبٌ عن جدوى البكاء.. فقالت له: - أخشى أن تنهش هذا الحلمَ عقارب الساعة! قال لها عاتبا: - تقاسيمك أيامي و حضوركِ زمني الوحيد، فأنتِ رقص الكواكب في إيقاع يمد لحاف اللحظة الراهنة على أخمص الماضي و جبين المستقبل فلا أمس..و لا غد!! مالت عليه بغنج، فأرسل أطراف أنامله تجس روحها عبر سجوف الجسد.. و إذ أحس نبض الكينونة يدغدغ حواسه، قرر أن يرفع الأغطية المتبقية بحثا عن وهج الحلول.. فمد إلى شفتيها شفتين ضارعتين.. لحظـَتها.. نعق غراب في المدى.. فجفلتْ البيضاء.. وتضاءلت بين يديه إلى حزمة من شعاع.. ثم طارت بعيدا..بعيدا.. نحو القمة الزرقاء... هكذا تلاشت البيضاء.. وتفتتتْ في يديه فصوص البلور.. وأفلتت منه لحظة وردية كان قد خبأها –بشح المالك - بين ضلوعه.. مخلفةً على شفتيه سؤالا حامضا: - لماذا؟ ....لماذا؟؟

أسلمته الحيرة إلى إسفلت المدينة و أزقتها.. وخلال إحدى جولاته، وفي زقاق قصي معزول، صادف وجهًا أسمر أدرك حين كان يمعن النظر فيه أنه قد تورط في أمر ما. لم يعد يذكر كيف وقف إزاءها.. ربما ناولها زجاجة عطر سقطت من حقيبتها، أو ربما أنقذها من براثن شاب كان يلاحقها..كل ما يذكره أن السمراء أعطته عنوانها و رقم هاتفها بنبرة ذات مغزى. في اليوم التالي هتف لها. تحادثا طويلا. علم أنها أرملة بدون أولاد تعيش وحدها، و تكبره بسنوات قليلة.. كانت سماعة الهاتف تنفث، عبر صوتها الدسم، فصوصا من الملح تـثْـقب رخام روحه الصقيلة.. طلبت منه السمراء أن يزورها في اليوم التالي.. فصّدَّع عروقـَـه اختلاج مفاجئ لم يعهدْ مثله.. بعد أن وضع سماعة الهاتف تلمسَ صدرَه بأصابع مرتعشة فألفى تحت غشائه المُزغّب نهرا ساخنا، دافقا، يخرج من صلب الشوق و ترائب اللهفة باحثا عن مسيلٍ له في تضاريس الجسد الأنثوي الأسمر. عذبه احتقانُ النهر.. كان يجرح كلَّ ساكنٍ فيه.. توعَّدَ نهره الجارح بأنه سيضمد الجراح قريبا.. و انثنى راضيا إلى بيتهم العتيق. في اليوم التالي طار إليها على خيط من نار. و بعد أن قرع الباب سمع وقع خطواتها السريعة قادمة، متناغمة مع نبضات قلبه، و لم تلبث أن دفعت به إلى سرير رغائبها و شدهته بأسرار الأنثى غير متمهلة ولا مستسمحة.. استقرت نظرته المحمومة على عينيها.. ثم سالت على خديها.. و انزلقت على شفتيها.. و إذ فرَغَتْ من اعتناق الذرى.. أخذت تتزحلق فوق رخام النهد العاري.. لتتأرجح على ثؤلوله اعترافا بليغا بجلال اللحظة.. وحين أدرك أنها ترقب نظرته المتيَّمة علتْه ُ حمرةٌ خفيفةٌ.. فسطتْ على روحه الخجلى، ومرّغتها في لزوجة شبقية آسرة مضمخة بفحيح الأدغال الأولى.. و لم تستأذنه، و هي الخبيرة المتمرسة، حين راحت تزرع فتوحها الإيروسية الظافرة في أعماق غيبه المهملة.. أما هو فكان معذبًا، لاهثًا، يسأل الرحمة.. و يسأل المزيد، و لم يكن في حاجة إلى الاستجداء لأنها سبقته فعهَّرَتـْه ُ و طهَّرَتـْه ُ بهوى صاعق، حارق.. له حدة التوابل..وطعم الحلوى..

و في لحظة أسطورية حمراء توحدت فيها أشياءُ الكون.. براكينُه و بحارُه.. أطلقا معا صيحة حادة ً واحدةً بارَكتْ تدفُّقَ النهر السجين.. و أحس هو أخيرا أن جسر رجولته قد ارتمى على ضفةٍ ما.

قالت له السمراء: - أنت رجل عذراء قال لها بعينين ممتنتين نصف مغمضتين: - لم أعد كذلك. .. و رطـَّبا بقية الأوار بندى القبل الأخيرة. صارت له امرأة.. اعترى سُكونـَه ُ بذْخُ الجسد.. و ظلـَّلـَتْ غربَتَـه ُ أفاريزُ الأنثى.. و اقتضت منه طقوسه الجديدة أن يخيط-بحزم- فم سؤاله القديم الصدئ الذي تسلل خلسة إلى شرايينه.. فلينعم بالصمت والقيلولة.. وليخرس نعيق الكلمات !! بعد هذه التجربة الأولى صارت له تجارب أخرى... كان يطارد صخب الكينونة الذي صبته السمراء في أعماقه عند نساء أخريات، بعد أن مل سمراءه وملته، و لكنه كان دائما يرتطم بأجساد رخامية.. لم يستطع أن ينزع اللحاء الأملس عن مخ الروح.. كانت يداه المتوثبتان تنزلقان على السطح وتقبضان على الفراغ... لكنه ظل رغم خيباته المتجددة يراود لغزه الآبق و يهيئ نفسه للقاء مستحيل.. و بينما كان يلهث بحثا عن عذريةٍ أضاعها، استيقظ سؤاله القديم الصدئ و دَهَمَه ُ بصريره العتيق: لماذا؟ لماذا؟! فر من وجه السؤال.. هام على وجهه في أزقة المدن، و دروب القرى الطينية، والغابات العذراء.. لكن السؤال ظل يطارده.. فأنّى يولي وجهه يجد رجلا بلا عينين و لا لسان ولا شفتين يطارده و يصر على صحبته.. فرّ من الوجه المسيخ إلى الحانة فطالعه في شخص الساقي.. فر من الحانة إلى المسجد فطالعه الوجه المسيخ ملتحيا واعظا.. فرّ راكضا إلى بيته، دلف إلى الحمام مسرعا، اغتسل من غبار المطاردة، وحدق في المرآة.. هاله أن يرى وجهَه بلا عينين و لا لسان و لا شفتين. .. و استيقظ من واقعه الكابوسي على وقع عامه الأربعين، و قد بدأت خيوط الشيب الأولى تغزو شعره...

التفت خلفه فرأى سنواته أربعين قطعة ًصدئةً، هشَّةً، متراكبةً.. في هيئة عمود مهتز، مترنح، يتوجّسُ من ضربة تأتي على قاعدته أو ثـقل يهوي على قمته..

لكنه انتـفض مصرا على عدم السقوط وصاح:

- لن أسقط.. لأنني سأطير.. نعم سأطير!! و عاد إلى بيتهم العتيق.. و حدق في الجبال الزرقاء البعيدة.. و تذكر عهده القديم.. أخذ يمشي نحوها رويدا.. رويدا.. ثم شرع يعدو.. و اشتد عدْوُهُ.. أحس بجسمه يخف شيئا..فشيئا .. نبت زغب أشقر في ذراعيه.. تكاثر الزغب.. صار له جناحان.. خفق الجناحان.. و تصاعد الجسد إلى السماء.. اخترقه الشعاع من كل الجهات.. أصبح جناحاه من نار.. و مضى بسرعة الشهاب.. .. نحو القمة الزرقاء.