مستخدم:Mohammad al kazimi

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

(سلسلة) حقائق في علم الكتاب (دِرَاسَة في حقيقة الأديان) الجزء الثاني (نسخة تجريبية للمناقشة)




تأليف

محمد محمد سليم ألكاظمي(ألمقدسي)


بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله العظيم الشأن، العزيز المكانة، السميع للدعاء، المجيب للنداء، الواحد الأحد. حمداً لا نشركهُ فيهِ أحد، ولا نخصهُ إلا لله الواحد الصمد. والشكر لله الوهَّاب للنِعم، والمُستعان على النِقم ، الرحيم بالخَلق،المسبب للسعد، الودود للحبيب، الرزَّاق للعبيد، الفتَّاح للضيق، مالك الملك ذو الجلالةِ والإكرام. شكراً لا يستحقهُ سواه، ولا يَرتَقي إلى عُلاه، ويبقى دونَ مُستواه مهما بالغنا في شكرهِ وثناه. إنَّ الحمدَ لله حمداً كبيرا، والشُكرُ لله شُكراٍ كثيرا، ولا إله إلا الله ولا نعبٌد إلا إياه، مخلصين لهُ الدين ولو كَرِهَ الكافرون، عليهِ توكلنا وبهِ أنبنا، وإليه مردنا في الدنيا والآخِرة.

فهو نعم المولى ونعم النصير.

وعليهِ نشهد بإنَّ الله لهو الأول والآخر والظاهر والباطن والقاهر فوق عباده،لا إله إلى هو.

لهُ الملك ولهُ الحمد يُحي ويُميت وهو على كل شيءٍ قدير وبالإجابةِ جدير.

وكذلك نَشهدُ بأنَّ محمدً رسول الله ، شهادة لا تقبل التحوير أو التزوير ، أبدية وأزلية وفي أي مكان وأي زمان سواءً كان ذلك في الدنيا أم الآخرة ، ونصلي عليهِ بعد أن صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. فهو الرسول العظيم، والنبي الكريم، والعبد الكامل العبودية للخالق الأحد، والمخلوق الكامل الخُلق لله الواحد الصمد، الصادق الأمين. عليهِ أفضل الصلاة وأتم تسليم، وعلى آله وأزواجه وصحبهِ أجمعين، وعلى من اتبع هداه واهتدى بهدية إلى يومِ الدين. أما بعد: بعد أن أنعم الله علينا بإتمام الجزء الأول من ( سلسلة حقائق في علم الكتاب ) ووفِقنا بنشرهِ وتوزيعه على الأخوة الكرام، نتمم ما وعدنا بهِ القاريء العزيز بأن نستمر بمدهِ بالحقائق التي يتوق إليها وينشدها كل إنسان مخلص وشريف، يبحث عن الحقيقة كما هي دون أي لبس أو تزوير خالِصةٌ نقية ، كما أوجدها الرحمان وكما إرتضاها لسكان الجنان. ففي هذا الجزء ، وهو الجزء الثاني من حقائق في علم الكتاب ، نُتابِع دراسة الحقائق الموجودة في علوم الكتب السماوية التوحيدية والتي تدعو لعبادة الله الواحد القهَّار وحدهُ لا شريك لهُ . فالتوحيد هو مقياسنا الذي نقيس عليهِ فهمنا للعلوم والمفاهيم الموجودة في الكتب السماوية ، وهو دليلنا الذي يحدد توجهنا في متابعة البحث والتدقيق لنميز بين الخبيث والطيب من العلوم . وكذلك فالتوحيد هو مرجعنا وحجتنا وأساس علمنا ، لأنهُ الهدف والغاية من الحقائق جميعها ومن العلوم بجملتها ومن الأبحاث والدراسات برمتها . فلا قيمة أو معنى لأي حقيقة أو علم أو دراسة أو بحث طالما أنها لا تدعوا إلى التوحيد ، حجتنا في ذلك جلية وواضحة نتبينها من خلال النظر والتمعن بمحيطنا والذي هو أقرب وأسهل وسيلة للتعرف على حقيقة الأشياء وبغض النظر عن الزمان والمكان ، فحجتنا بذلك أبعد ما تكون عن النقض والتزوير والدحض. فالتوحيد ككلمة ومعنى نجدها ونتلمسها ونعيشها في محيطنا البشري العام المادي والروحاني . وبغض النظر عن التفسيرات واللغات التي قد تكون لها نوع من التأثير على مدى فهم وإستيعاب هذهِ الكلمة فهي تبقى في مدلولها ومحتواها ذات طابع وحدوي وفي مسارها ذات طابع فردي. فالتوحيد أو الوحدة وكذلك التوَّحد أو الإتحاد ومنها مُتَّحِد أو وحدوي وإتحادي وغير ذلك فكلها جاءت من مصدرٍ واحد ألا وهو كلمة الواحِد . وعليهِ فنحن بني الإنسان ومن ضمن طبيعتنا الخلقية لا نستطيع فهم محيطنا أو استيعاب أي معلومة مستوحاة من تجاربنا وتعايشنا مع الواقع ما لم تكن ضمن إطار موَّحد وثابت. فنحن كبشر لا نستطيع أن نستوعب الإشياء إلا إذا وضعناها في إطارها الموحَّد ، فالجمع نفهمهُ من المفرد كقولنا( كَون) وهي مأخوذه من (كائِن) وكذلك الأعداد فهي لا تُفهم من قبلنا إلا إذا كانت من مضاعفات الرقم واحد ، فتضاف وتطرح وتُجزَّء وتتضاعف من الرقم واحد وليس من الصفر أو أي رقم آخر ، وقد يدَّعي بعض المتقوليين بتنوع الأعداد والأسماء والمفاهيم وينسبها لبعض المتفلسفين والمُراوغين ، ولكن هذا لن يُغيِّر من الحقيقة شيء والعام نفهمهُ من الخاص نعيش في كون ( إطار واحد) ونحن مخلوقات حية ( إطار واحد ) ونحن من جنس البشر ( إطار واحد) وهذا ينطبق على باقي المخلوقات ، ولكي نفهم المطلوب هنا علينا أن نفرِض العكس تماماٍ بمعنى إننا نفرض بأننا من أفراد ليس من البشر وإنما ألطويل منَّا يعود إلى جنس يختلف عن القصير وكذلك الجميل يختلف عن القبيح أو السمين يختلف عن الضعيف والأسمر يختلف عن الأبيض والصغير يختلف عن الكبير والعجوز يختلف عن الشاب وهكذا ثم دعونا نطبق هذا القول على باقي المخلوقات والكائنات ، لتكون النتيجة هي إستحالة الإستمرارية على هذا المنهاج ،على الرغم من أنَّ هذا الإفتراض قد تمَّ تطبيقهُ بالفعل ولكن على مراحل ومستويات مختلفة وفي جميع المجتمعات الإنسانية ولا يزال يطبق بصورةٍ أو أُخرى ومن حين إلى آخر. أما أسباب فشل هذهِ الأفكار الغير وحدوية إنما يعود لكونها تؤدي بطبيعة الحال وبشكل حتمي إلى الضعف والإنهيار وبالتالي الضياع التام والكامل وهذا ينطبق على كل مخلوق يحاول أن ينفرد بتعريف أو صفة فريدة ليتميز بها عن الآخرين بسبب أو بدون سبب ليبتعد من خلالها عن أي تفكير وحدوي ، ومن أهم أسباب الفشل الأكيد هو مخالفة هذا المخلوق لطبيعة خلقهِ . ففي النهاية نحن نتكلم عن مخلوقات إجتماعية ذات طبيعة تعاونية . فأساس الوجود مبني على القدرة على التواصل والإستمرار والبقاء ، وبالتالي فكل مخلوق مكلف بالبحث عن الأسباب التي تساعدهُ على تحقيق ذلك ، ولا يمكننا نحن بني البشر تحقيق أي هدف من أهدافنا الإنسانية إلا عن طريق الوحدة. إذاً الوحدة بين بني البشر ضرورية وحتمية ومصيرية ولا يمكن الإستغناء عنها بأي وسيلة من الوسائل ، ولا يفوتنا ذكر بأنَّ هناك بعض الكائنات الحية لا يمكنها العيش في مجتمعات ، مما يقودنا إلى القول بأنَّ النزعة التوحدية الموجودة عند البشر إنما هي صفة موجودة بالفطرة وليست مكتسبة ، بمعنا أنها موجودة فينا عن طريق جهة محددة حرِصَة على إيجادهُ بهذا الأسلوب والشكل الذي نراهُ الآن . وبعد أن تمَّ إثبات الحُجة نقول بانَّ إقتناعنا بالوحدة والتوحد يجب أن يقودنا بطبيعة الحال إلى الإقتناع بمبدأ الإله الواحد والفكر الواحد والعقيدة الواحدة ، ومجادلتنا في هذا الأمر إنما نابعه عن جهل وعدم معرفة بحقيقة الأمور. وليس هناك من سبيل لمعرفة الإله الواحد غير سبيل الدين والتديُن الذي يدعوا للإله الواحِد القهَّار ، وما من سبيل لدراسة ومعرفة الدين سوى دراسة علوم الكتب السماوية الموحِدة.


ومن هذا المنطلق ارتأينا هنا أن نبحث في أمور الدين العامة والخاصة،  لما لها من أهمية كبرى في حياة الإنسان وذلك منذ وجوده على الأرض وإلى وقتنا الحالي.   

فكلمة الدين رغم اختلاف معانيها من شعبٍ لآخر، وتنوع طرق نطقها من لغةٍ لأخرا، وتعدد مصادرها من جهةٍ لأُخرى، إنما تبقى في حقيقتها المصطلح الفلسفي الوحّيَد في مفهومهِ الذي يعمل على إيجاد صلة ما بين الإنسان وخالقهِ بشكل خاص، وبين الخالِق والمخلوق بشكل عام. آملين من خلال هذهِ الدراسة أن نتمكن من الإحاطة بحقيقة الدين، لكونِهُا من المواضيع الحساسة والمهمة الداخلة في صميم الأديان السماوية جميعاً دون استثناء، والتي ما برحت تشكل نوع من التخبط لدى المتلقي، وذلك بسبب عدم إدراك الناس لحقيقة الدين في حياة الإنسان.

نرجو بذلك التوفيق من الله في هذهِ المهمة الصعبة، فهو نعم المولى ونعم النصير.

مدخل إلى التوحيد


نستهل موضوعنا هذا بسورة من سور القرآن الكريم، والذي فيهِ هُداً ورحمة للناس أجمعين. فلقد قال المولى العزيز القدير في سورة التين، بعد أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم،

بســـــــمِ الله الرحمن الرجيم: (والتِينِ وَالزَّيتُونِ، وَطُورِ سِينينَ، وَهَذّا البََلدِ الأمِينِ، لَقَدَّ خَلقَنا الإنسانَ في أحسَنِ تَقوِيم، ثُمَّ رَدَدنَاهُ أَسفَلَ سَافِلينَ، إلا الّــذين آمَنواْ وعَمِلواْ الصالِحاتِ،  فَلَهُـم أجرٌ غَيرُ مَمنُونٍ،  فَمَا يُكَذِبُكَ بَعدُ بِـالدِينِ، أليس الله بأحكَمِ الحاكِمينَ ) صدق الله العظيم.

نلاحظ هنا بأنَّ هذهِ السورة الكريمة قد ابتدأت باستخدام أحد أنواع القَسَمْ في اللغة العربية، وهو قَسَمْ التأكيد، وقَسَمْ التأكيد يَختلف اختلافا كُلياً عَن قَسَمْ الوَعيد، فقَسَمْ التأكيد إنما يستخدم لإعطاء المصداقية الّلازِمة للخبر الذي يَتبع ذلك القَسَمْ والذي جاء القََسَمْ ليؤكِده، بالمقابل فإننا نجد قََسَمْ الوَعيد يستخدم ليوحي بجدية الوعيد وبحرص الواعِد على تَنفيذ وعده. ولا نستطيع أن نقول بأن قَسَمْ الوعيد قد جاء ليؤكد الوعد، لِكون الوَعد لا يُمكِن تأكيدَهُ إلا بَعد حُدوثهِ. ولا بدَّ أن ننوه هنا بأهمية معرفة فعل القَسَمْ وأنواعهُ وذلك بسبب كثرة ورودهُ في القرآن الكريم، وعلى وجه الخصوص في بدايات العديد من السور القرآنية، مما يساهم بدرجة كبيرة في فهم تلك الآيات وإدراك معانيها الجليلة، وذلك لِما لِهَذَا الفِعل مِن أَهمية كَبيرة في إعطاء صورة واضحة عن الخبر. ففي هذهِ السورةُ الكريمة نجد بأن فعل القسم قد ساهم بدرجة كبيرة في فهم السورة كاملةً. فمما لا شكَّ فيه هو وجود إهمال كبير في شرح فعل القَسَمْ وذلك في العديد من التفاسير المُتخصِصَة في شرح آيات الذكر الحكيم، مما استدعانا إلى التركيز على هذهِ النقطة بالذات. ففي سورةُ التين مثلاً والتي نحن في صدَدِها الآن، نجد بأنَّ الخالق العظيم قد إرتئا أن يبدأ هذهِ السورة بقَسَمْ التأكيد، وذلك ليؤكد الخبر الذي جاء بعد القَسَمْ. فقد أقسم الله العزيز القدير هنا بالثمار كالتين والزيتون وبِبعض المواقع الجغرافية كطور سيناء والبلد الأمين وذلك ليؤكِد علاقة الخبر بهذهِ الثمار وبِتلك الأماكن، ليعزز بذلك المعلومات الواردة في ذلك الخبر من ناحية، وليثير الانتباه إلى أهمية الحقيقة المطروحة في هذهِ الآية الكريمة من ناحية أخرى. أما الخبر المراد تأكيدهُ هنا باختصار فهو عن حقيقة خلق الإنسان والكيفية التي كان عليها في البدء كونهِ في أحسن تقويم من الخلق أجمعين، ثم جاء ذكر الحال التي آل إليها بعد أن تنكر ذلك العبد لله وجحد بنعمتهِ وعصى أوامِر ربهِ فَرَدَّهُ الله ليجعلهُ أسفل خلق الله أجمعين أي أسفل سافلين، فهنا تكمُن أهمية هذهِ السورة الكريمة وهذا ما سوف نقوم بتأكيدهِ وشرحهِ هنا إن شاء الله. ثم استثنى الذين اعترفوا بذنبهِم وأقروا بولائهم لله الواحِد القهّار عن طريق الإيمان والعمل الصالح، ثمَّ جاء بعد هذا الخبر جملة تعجبية بصيغة السؤال لتتعجَّب وتتساءل في نفس الوقت عن كيفية تكذيب الإنسان لهذا الدين الذي جاء به رسل رب العالمين بالرغم من كونهِ السبيل الوحيد لإنقاذ هذا الإنسان من كونهِ أسفل السافلين، ليعيدهُ إلى أحسن تقويم عن طريق هديهِ إلى الحق القويم. ثُمَّ اختتمت السورة الكريمة بجملة استفهامية تفيد التأكيد على أن الله هو أحكم الحاكمين وذلك بإرسالهِ لهذا الدين العظيم والذي فيهِ رحمة وهداً للناس أجمعين. فمن ضمن الحقائق المسلم بها والتي جاءت هذهِ السورة الكريمة لتؤكدها، هي أن الإنسان الأول قد خُلِقَ مِن طين ليكون مستقرهُ ومكانهُ في جَنةِ النعيم، ولكنَّهُ عندما عصى أوامر ربهِ وأضهر نوع من التمرد على خالِقه، ردَّهُ الله من كونهُ مخلوق في أحسن تقويم في جَنَّة النعيم إلى أسفل السافلين على الأرض. فالذي يحدُث على الأرض هو خلق من بعد خلق( أي تناسل ) والحكمة في ذلك هو تطهير جميع نسل بني آدم، فالذي يتوب من ذنب أبو البَشِر آدم عليهِ السلام كما تاب آدم نفسهُ يعود إلى جنَّة النعيم، والذي يصر على الخطيئة يُحشَر مع أوليائهُ من الشياطين في جهنَّم ويئس المصير. ولا يفوننا هنا أن نشير بأن التناسل يختلف كلياً عن الخلق من طين، وذلك لكون من أهم شروط التناسل هو إنتقال الصفات الو راثية خيرها وشرها من الآباء إلى الأبناء، وبهذهِ الحالة يتحمل الإنسان سيئات آبائهِ وأجداده، مما يحتم عليهِ السعي إلى التخلص من السيئ منها ومن ما يحملهُ هو من آثام لينال رضا الرحمن، ليعود نسل بني آدم طيباً زكيا. وبخصوص الجنة، فبعد يوم القيامة وبعد يوم الحساب فإن الله سوف يعيد خلق الإنسان ولكن من طين وليس من نسل الآخرين، والحكمة في ذلك والله أعلم هو إيجاد المساواة بين الناس أجمعين، فلا يعود هناك وجود للأنساب ولا يكون هناك ولاء للأب أو العشيرة فالولاء كلُّهُ لله الواحد القهار. أما الطريق الوحيد التي تشير إليهِ السورة الكريمة لمن يرغب في العودة إلا جَنَّةِ الخُلد، هو أن يعمل بِعَمَلِ أهل الجَنَّة، وقد حددتهً الآية بعملين رئيسيين: الإيمان الكامل بالله أولاً، فبالإيمان يتنقى الإنسان من تهمة الكفر والجحود والعصيان. وبعمل الصالحات ثانياً، والتي تجسد فيهِ العبادة لله، وترسخ الإخلاص لهُ، وتعمق التفاني في طاعتهِ. وبذلك يتم تأكيد صحة قرار تقريب الله للإنسان من عرش الرحمن،وتكريمهُِ إياه بإشراكهِ في سجود الملائكة لهُ، بعد أن كانت تسجد لله وحده فقط ، وهو ما يؤكد بالتالي عِلم الله المسبق بأفضلية الإنسان كمخلوق على الخلق أجمعين بعد إنتصارهِ على منافسهِ وهو الشيطان الرجيم في مكان إرتضاه الرحمن ليكون حلبة صراع بين الخير والشر وذلك على الأرض. فعلم الله المسبق بحقيقة الإنسان إستوجبَ مخاصمة الملائكة والشياطين لأجلهِ، حيث قام بمعاقبة إبليس بعد أن كان من المقربين ونفيه إلى الجحيم، أما الملائكة فجعلهم جنوداً مسومين ليدافعون عن الصالحين من عباد الله المخلصين وذلك كلَّهُ بسبب تشكيكهم لصلاحية الإنسان في تولّي خِلافة الله على الأرض. وبعودتنا إلى الآية الكريمة مستلهمين معانيها الجليلة نجد بأن قََسَمْ الرحمن قد تميَّز هنا بذكر الأشياء القريبة من حياة الإنسان والمعروفة في محيطه، والتي ترتبط بشكلٍ أو بآخر بالخبر المراد تأكيدهُ.

فهذهِ من أَحد وظائِف فِعل القَسَمْ المهمة كونُها تُقَرِب إلى أذهان المستمع العلاقة الوطيدة بين الأسماء والصفاة التي تمَّ القَسَمْ بِها وبين الشيء المراد تأكيدَهُ عن طريق القَسَمْ، وهو لا بُدَّ أن يكون شيئاً عظيماً عند الخالق ليستلزم بذلك تأكيدهُ بالقَسَمْ.

فهذا القََسَمْ تميز عن من سواه باستعانته بالتين والزيتون أولاً ثم بطور سينين وبعدها بالبَلَدِ الأمين. أما التين (وهو نوع من الفاكهة الحلوة المذاق المحببة لدى الإنسان) فقد جاء ذِكرُه للدلالة على نعمة الله في توفير الفاكهة اللذيذة الطعم والسهلة الهضم والمفيدة للإنسان وذلك ليُذكِر المتلقي بالمنطقة المقدسة التي تتواجد فيهِ هذهِ الفاكهة وهي بلاد الشام على وجه الخصوص لكونها بلاد مقدسة لتردد الأنبياء عليها وولادة بعضهم فيها ومثوى البعض الآخر، فهي مذكورة في الكتب السماوية المقدسة. أما الزيتون فهو نوع من الثمار التي تتميز بقيمتها الغذائية العالية، والمتوفرة في بلاد الشام أيضاً. أما بلاد الشام كطبيعة فهي من ضمن الأراضي المقدسة التي حباها الله بنعمة الخضار والجبال والمياه الوفيرة والمناخ المعتدل، فكانت طبيعتها خلَّابه وجمال سهولها ووديانها فتَّان. فبدلاً من تسمية أرض الشام هنا باسمها المعروف، إرتئى المولى بالتنويه إليها عن طريق ذِكر ما فيها من خيرات ونعم قريبة ومحببة عند الإنسان.

لينتقل بعدها من ذكر منطقة ذات طبيعة خضراء إلى ذكر منطقة ذات طبيعة صحراوية قاسية على الإنسان وهي منطقة طور سينين والمقصود بها منطقة سيناء (والله أعلم) والبَلد الأمين والمقصود بهِ مَكة المكرمة، وكلاهما منطقة جبلية وصخرية قاحلة يندر فيها الماء والخضرة، بالرغم من كونها من المناطق المقدسة والمحببة عند المؤمنين.
وبعد تفنيد القَسَمْ وشرحهِ نجد وكأنهُ قد جاء ليعيد لأذهان المؤمنين طبيعة التباين والاختلاف الموجود في تضاريس الأراضي المُقدَسة، وتنوعها مِن مَنطِقَة جميلة خضراء فيها الفاكهة اللذيذة والطعام الشهي، إلى منطقة جرداء قاحلة صحراوية قاسية رغم كون كلاهما أرض مقدسة مختارة من بين أرض الله الواسعة وملكه اللا محدود.

وكأن الله قد أقسم بقدرتهِ وعظمتهِ في إيجاد المناخ المتنوع ليذكر الإنسان بأنِّ الله الذي خلق السماوات والأرض وبأنهُ هو الذي خلق الجنة والنار وبأنهُ هو الذي أوجد الخير والشر وبأنهُ هو الذي فرضَ على الإنسان الحياة السهلة والحياة الصعبة وبأن الله هو الوحيد القادر على تخليص الإنسان من عذابه. وعليهِ فإن القسم المذكور أعلاه إنما جاء ليؤكد معرفة الخالق المسبقة بطبيعة الإنسان وبالأشياء المحببة إلى نفسهِ، ليكون الكلام الخاص بخصوصيات خلق الإنسان ذو مصداقية كبيرة للخلق أجمعين. أما أهمية القَسَمْ تتمثل بكونهِ قد جاء ليُقَارِن ما بين منطقة مليئة بالنعمة الإلهية وبين منطقة فقيرة من هذهِ النعمة، ليتشابه بمقارنتهِ للإنسان عندما يكون في أحسن تقويمِ في الجنة مع الإنسان بكونهِ أسفل السافلين عند وجودهُ على الأرض كما سيتم شرحهُ لاحِقاً. فلقد جاءت الآية الكريمة التي ما جاء القسم إلا ليؤكدها وهي (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) لتؤكد حقيقة كون الإنسان أحسن خلق الله من حيث الاستقامة والاعتدال، فقد ميزهُ الله عن باقي خلقهِ أجمعين بالحُسن والجَمال وكَمَال الخُلق، فجَعل قامَتَهُ ووجودَهُ بين الخلائِق في أحسن وأفضل وأكمل صورة. بعد ذلك جاءت الآية الكريمة ( ثم رددناهً أسفل سافلين) لتدل على دراية الخالق بطبيعة هذا الإنسان، فبالرغم من كونهِ أحسن مخلوق خلقهُ الله ولكن ذلك لا يمنع من وصول الإنسان لدرجة الغرور والتي قد تقودهُ إلى التمرد على خالقه في محاولتهِ لعصيان أوامره ورغبتهِ في التصرف بمفرده والإنفراد بقراراته ِ، مما استوجب قمع ذلك الغرور إلى ردَّهِ لمستوى أسفل السافلين. كيف لا وهو الإنسان بعدما كان مدلل ومن سكنة الجنان ومكانته بقرب الرحمان، يأتيه رزقهُ من كل مكان، لا يعرف الجوع ولا العطش أو الحرمان، لا يصيبه الألم أو المرض، ومسكنهُ في القصور، محاط بالجواهر والعطور، وراحتهُ على سررِ مرفوعة ناعمة وموفورة، وقوله فيها سلام سلام. فأصبح بعدها في الأرض معذب ومهان، يبحث عن رزقهِ بنفسهِ بين المخاطر والحرمان، ينشد الكرامة فلا يجدها، ويطلب العِزّة فلا يرتضيها له أحد، وينشد الأمان فنجده لا يسلم من أي مخلوق كان. هذا هو حال الإنسانِ على الأرض بعد أن كان من سكنة الجنان وقريبٌ من الرحمن. فعند دراستنا للتأريخ والجغرافيا نجد بأن أرض الحجاز كانت أرض جنان، مثلها كمثل أرض الشام، بمعنى أن أصل هذهِ الأرض كانت ضمن المناطق الغنية بالجنان، ولكن شاء الرحمن أن تصبح هذهِ الأرض أرض صحراوية قاحلة بالرغم من كونها أرض مختارة فيها بيت الرحمن. مثلها كمثل الإنسان، فاصل الإنسان هو مخلوق مكرَّم عند الإله الواحد الدَّيان، ولكن بسببٍ غرورهِ أراد الرحمن أن يمتحن ذلك الإنسان فردهُ إلى أسفل سافلين ليتعب ويشقى. دليلنا على ذلك نجدهُ بتسخير الإنسان على الأرض لأخيهِ الإنسان عن طريق العمل لديهِ وذلك لأنَّ الله قد حصر رِزق الإنسان عند أخيهِ الإنسان. وعليهِ يكون الإنسان بهذهِ الحالة المخلوق الوحيد الذي جعل الله رزقَهُ بيد أخيهِ وليس بيده ِ، ففي المجتمع الإنساني نجد بأن الإنسان الفقير لا يستطيع أن يكسب قوة يومهِ إلاِ بالعمل عند الرجل الغني، أما الرجل الغني فإنهُ بحاجة للرجل الفقير ليدير شؤونه والتي يستحيل على الغني بأن يديرها لوحدهِ. وهذا الأمر لا نجدهُ عند أي مخلوقٍ كان، فكل مخلوق موجود في هذا الكون لهُ رزقهُ وهم متعادلون في الرِزق، وكل ما عليهم هو البحث بنفسهِ دون أن يُكلف أحد بهِ. فهل هناك بعد هذهِ الحقيقة أقل مستوى وأحط قدرا من الإنسان الذي يعيش على الأرض، وهل نجد طائراً يعمل عند حماراً آخر أو حمامةً تعمل عند حمامةٍ أخرى أو حصان يعمل عند حِصانٍ آخر وهكذا، وهل هناك أحط قدراً من مخلوق يجد نفسهُ مجبوراً على تحمل إهانة وذل أخيه الذي لا بتمييز عنهُ في شيء سوا أنَّ رِزقتهُ التي رزقها الله إياه لا يجدها إلا عند أخيهِ ولا يستطيع طلبها من سواه. ثم جاءت الآية الكريمة لتدل على استثناء الخالق العزيز من أهل الأرض هؤلاء، المؤمنين بالله والذين يعملون الصالحات لقولهَ ( إلَّا اللذين آمنوا و عملوا الصالحات، فلهم أجرٌ غيرُ ممنون) فالإيمان بالله يجعل من عملهم عبادة لله الواحد القهار، مهما كانت طبيعة ذلك العمل، لأنهُ في النهاية يبقى وسيلة لإرضاء الرحمن، وطريقة لإثبات حسن الخُلق عن طريق عمل الصالحات. ليكون بذلك أجرهم عند الله وحدهُ، ورزقتهم من الله، فنجدهم دائمين الشكر لله الحامدين لفضلهِ، فزكاهم الله لذلك وجعل أجرَ عملهم غيرَ ممنون، بمعنى أن أجر الله لهم سيكون متواصل ولن يتوقف أبداً، فهم سيحصلون على الخير والنعيم الأبدي وذلك في جنات الخلد. ثم جاء قولهُ تعالى ( فما يكذبك بعد بالدين ) بمعنى ماذا يريد الإنسان أكثر من هذا القسم ومن هذهِ القراِئن التي تدين الإنسان وتثبت حاجتهُ للرحمن. ولماذا إذاً يُكذِب الإنسان الكافر بدين الله وهو الدين الذي لم يأتي إلا ليعين الإنسان على بلوتهِ التي جعلتهُ من أسفل السافلين. هذهِ الحقيقة لا يستطيع الإنسان نكرانها، فجميع المشاكل التي يعاني منها على الأرض إنما قادمة من معاملة الإنسان السيئة لأخيهِ الإنسان، والذي يجد نفسهُ مضطراً لمسايرتهِ حرصاً منهُ على تحصيل رزقهِ، ولو كان لكل إنسان مصدر رزق مستقل، أي مباشرةً من عند الرحمن لما عاش في هذا الذُل والهوان. إذا فدين الله هو الملجأ الوحيد للإنسان ليتخلص من ظُلم أخيهِ الإنسان، فدين الله هو الحق من عند الله، وفيه الخير كله والرحمة الكاملة والسعادة الدائمة. وعليهِ فلا يوجد لأي إنسان أي سبب ليكذب بدين الله، فما الذي يدعوا الكافر بأن يكذُب بدين الله بعد أن عرف حقيقَتهُ؟ ليكون السؤال البديهي بعدهُ هو ( أليسَ اللهُ بأحكمِ الحاكمين ) أي إنهُ هل هناك شكٌ بعد ذلك بحكم الله الذي فاقِ حُكم الحاكمين جميعاً دون استثناء، وهل هناك وسيلة لكبح غرور الإنسان أفضل من هذهِ الوسيلة. وعليهِ فلقد خصصنا هذا الجزء من الكتاب لبحث حقيقة الأديان السماوية إن شاء الله، ونَخُص مِنها كلاً من دين الإسلام ودين النصارى ثم دين اليهود، مشيرين إلى أمثل الطرق للتعامل معها بما يرضي الله، وأملنا في الله كبير بأن يوفقنا في مسعانا هذا، فإنَهُ نِعم المولى ونِعمَ النصير، وبالإجابةِ جدير.


مدخل إلى حقيقة الأديان السماوية


حقيقة الدين

قبل الخوض في الحديث عن حقيقة الأديان السماوية، يتحتم علينا أن نبحث أولاً في حقيقة الدين كمصطلح لغوي ذو أساس ومعنى في اللغة العربية وكذلك ما يقابلهُ في اللغات الأخرى دون استثناء متخذين من ردود الفعل البشرية والعفوية اتجاه هذهِ الكلمة كأساس لمعرفة حقيقة هذا المصطلح وبالتالي حقيقة ما يراد فه من مصطلحاتُ في اللغات الأخرى. و بذلك نكون قد تجاوزنا المغالطات التي قد تنشأ بسبب اختلاف الألسن، معتمدين على الدافع الذي أجبر الإنسان على إعطاء مصطلح الدين تلك الأهمية الكبرى، وهذا يأتي بعد أن يتم توضيح قيمة هذا المصطلح من حيث الفاعلية والتأثير على الإنسان وبشكلٍ عام، بحيث يشمل إيضاحنا هذا جميع العقائد والمذاهب والملل سوائاً تلك التي اندحرت مع الزمان أو التي مازالت مستمرة منذ نشأتها وإلى وقتنا الحالي دون أن نستثني أيٍ منها. ولن نستثني تلك الفلسفات التي اتخذت من مصطلح الدين غطاءا لها مثل الديانات الوثنية، محاولتاً بذلك إطغاء صفة الشرعية عليها، على الرغم من كونها مجرد فلسفات وأساطير من وحي الخيال المجرد، وذلك بغض النظر عن ما كانت تدعوا إليه.

فإذا تمَّ لنا ذلك نكون قد جردنا تلك الاتجاهات الفكرية من أهم مرتكز لها في توجهها الفكري والتي سعت من خلالهِ للوصول إلى أهدافها المعلنة والغير معلنة.

بحيث يكون لنا الحق بعدها بأن نحسم المسألة عن طريق الحكم بين جميع الأديان بكل مصداقية وحيادية تامة، متخذين المنطق العقلاني والتاريخ الإنساني والنتائج الملموسة التي لا غبار عليها كأساس واقعي وحقيقي في دحض أي ملابسات قد تنشأ من جراء التعامل مع هكذا مواضيع. مبتعدين بذلك عن أسلوب التجريح المتعمَّد، ومخاطبين بنفس الوقت ألذات البشرية التوًّاقة لمعرفة الفرق بين الحق والباطل، الخير والشر، النور والظلمة، الحياة والموت. فمما لا شكَّ فيهِ بأننا نحن بني البشر قد خلقنا من نفسٍ واحِدة، ومردَّنا إلى الله كنفسٍ واحدة، وبغض النظر عن المشككين بهذا الأمر ولكن حاضر الإنسانية وما ضيها ومستقبلها يشهد بصحة هذا القول، خصوصاً ونحن نرى شوق الإنسان واندفاعه نحو التوحُّد وابتعاده قدر الإمكان عن العُزلة، وكأنهُ يبحث عن إخوةٍ فقدهم وعن مُلكٍ أضاعهُ وعن مجتمعٍ نبذهُ. فنحن بني البشر تواقين للفكر الموحَّد وللثقافة الموحَّدة وللعلم الموحَّد، وبمعنى آخر فنحن تواقين للوحدة بكل معانيها، فلماذا لا يشمل ذلك الدين الموَّحد الذي يلبي جميع احتياجات البشر دون استثناء، وذلك عن طريق إعطاء معنى وقيمة وهدف للوجود الإنساني على الأرض. فهذا هو فعلاً ما تسعى إليهِ البشرية منذ بداية الوجود الإنساني على الأرض بالفعل، أو على الأصح هذا ما تتوق الإنسانية للعودة إليهِ، وذلك بعد تسليمنا بما جاءت بهِ الكتب السماوية المقدسة، مبتعدين عن ما تدعيهِ الفلسفات الفردية والإجتهادات الخالية من أي معناً أو غاية. دليلنا على ذلك هو ما نعيشهُ الآن وفي هذا القرن من الزمان بالذات، ونحن نرى سعي البشرية جمعاء نحو التوحُّد، فمن الملا حض حالياً وجود العديد من المظاهر الاجتماعية التي تكاد تكون موحدة ومتفق عليها بين جميع الشعوب البشرية، بمعنى بأن جميع شعوب العالم تتجه نحو الوحدة بكل معانيها وذلك بصورة عفوية، دون أن يكون هناك أي نوع من الضغوط الخارجية أو القسرية، فمثلاً التوجُّه العالمي نحو اللغة الموحدة والمتمثلة حالياً باللغة الإنجليزية أو التوجه نحو اللباس الرسمي الموحَّد كالبدلة والكرافات أو الجينز والقميص، وكذلك وجود والطعام الموحَّد كالوجبات السريعة أو الشراب الموحَّد كالكوك وهناك التجهيزات الشخصية كالساعة والسيارة والموبايل وما هنالك من المقتنيات المنزلية كالراديو والتلفاز والتي لا يكاد أن يخلو منها أي بيت سواء في الشرق أو الغرب. إذاً فهناك توجه عام وشامل نحو التوحُّد في جميع صوره، وذلك من قبل الجنس البشري دون تحديد، وكانَّ هناك قوة خارجية تريد أن تعيد البشر ليكونوا شعبُ واحد وأمة واحدة وبلغة واحدة وبطريقة عيش موحَّدة، متحديةً بذلك جميع أشكال العوائق، من حدود ومسافات وتضاريس جغرافية وبيئية ونفسية، هذا هو الواقِع الملموس وما دونه فهو محض من الوهم. وإنهُ لمن الجدير بالذِكر بأنَّ من أهم مميزات الدين التي جعلت منهُ مطلباً شعبياً هو كونهُ يعبِر عن فكراً وتوجهاً شعبياً موحداً يتخطى الحدود والمواقِع، ولا يعترف بالزمان أو المكان أو الجنس، فهو مطلق وأبدي، أو هذا الذي لا بُدَّ من أن يكون عليه الدين. أما سبب ما نراه من تعدد لصورهِ ومناهجهِ واتجاهاته في تاريخ البشرية، فذلك يعود إلى طبيعة الناس من حوله خاصة أولائك الذين يتميزون بالتمرُّد والعصيان، شأنهُ شأن الأمور الأخرى التي تساير الناس في طبائعهم وغرائزهم. دعونا لا نستعجل الأمور وذلك لكي نعطي لكلٍ ذي حقٍّ حقَّهُ. وبإذن الله سوف نغطي الموضوع وبالصورة التي تشفي القلوب الضمآنة إلى معرفة الحق ومواطنه، والصدق ودواعيهِ، والسعادة ومفاتنها، والراحة وديمومتها. فمن ضمن المشاكل الرئيسية التي تعاني منها الأمم والجماعات على مر السنين ومنذ نشأتها هو التخبط الحاصل في التوجه الديني لدى الإنسان، وأساس التخبط هذا هو وجود العديد من علامات الاستفهام فيما يخص الدين، ومن ضمن تلك التساؤلات نورد بعضٍ منها.

والأسئلة هي:

1- ما هي حقيقة اللغة وما معنى كلمة الدين في اللغة، وما هو مصدرها، ومن أين جاءت هذهِ الكلمة ولماذا، وبالتالي ما معنى مصطلح اللغة، وما المقصود منهُ؟ 2- هل مفهوم كلمة الدين في لغةٍ ما أو مجتمعٍ ما تطابق معناها في المجتمعات الأخرى؟ 3- ما مدى تأثير كلمة الدين على النفس البشرية بشكل خاص وعلى المجتمعات الإنسانية بشكل عام، وما سبب تعلُق الناس بها، وتمسكهم وإصرارهم على وجودها فيهم؟ 4- هل الدين غريزة أم فكر أم عقيدة أم توجه أم ماذا؟ 5- ما علاقة الدين والخيال البشري، وما هو الخيال بحد ذاتهِ؟ 6- ما دور الدين في حسم الصراع بين الخير والشر، وما حقيقة ذلك الصراع؟ 7- كيف بدء الدين مع الإنسان وكيف ستكون نهايتهُ؟ 8- لماذا هذا الكم الهائل من الديانات، ولماذا لا يكون دين واحد للجميع؟ 9- هل هناك علاقة بين الدين والحضارة؟ 10- ما هي الثوابت بالدين وما هي المتغيرات؟ 11- لماذا وجود الروح ضروري بالدين، ووجود المادة سطحيا فيها؟

وغيرها الكثير من الأسئلة نحاول في هذا الجزء من سلسة الحقائق التي نحن بصدد دراستها للرد على ما يتيسر منها معتمدين بذلك على هدى الله وتيسيره للأمور. ولا يعيبنا نحن المسلمين بأن نستعين بالرد على هذهِ الأسئلة من تفسيرنا لآيات الذكر الحكيم

لقناعتنا بكون القرآن الكريم هو المرجع الوحيد الذي يجب على كل إنسان الرجوع إليه ليجد الرد الصريح والحقيقة الكاملة.

ففي القرآن نور وهداية، وفيه حقٌ ودراية، وفيهِ حسمٌ وكفاية لكل عبد مخلص، وباحث مجتهد، ودارس للحقيقة، قاصد وجهة الله ورضا رسولهِ الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم تسليم. فمهما حاول الدارس في هذا الشأن من المواضيع المهمة في حياة البشرية بأن يجمع ما يمكن جمعهُ من مصادر وكتب ومراجع وأساطير قديمة وجديدة فإنهُ لن يعطيها تلك التغطية الوافية والإحاطة الكاملة التي تستحقهُ، وذلك لسبب بسيط ألا وهو كون تلك المصادر إنما جاءت لتغطي الحدث، ولم تأتي لتبحث عن أسباب ودوافع ذلك الحدث، فالأسباب والدوافع إنما هي الأساس في إيجاد تلك الأحداث، وليس الحدث نفسهُ. فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد في اتخاذ الشمس أو القمر كإله، إنما جاء للدلالة على أسلوب معين في التفكير وفي تلبية الحاجات النفسية والمتطلبات المرحلية التي اقتضتها تلك الفترة من الزمن، ولم يكن الأمر مفروضاً أو ملزما لأحد. دليلنا على ذلك هو في محدودية تلك الفلسفات والأساطير وانحسارها في نطاق محدود جداً من الزمن لينعكس ذلك على محدودية التفكير لدى متبعيها، وهذهِ الحقيقة تبدو لنا جلية وواضحة عند مقارنتنا تلك الفلسفات بالأديان الحقيقية الموحدة ونخص منها بالدين الإسلامي، والذي ما برح يثبت وجودهُ وجدارتهِ واستحقاقه كدين ليهدي الناس إلى الحق المبين. إذاً وفي هذهِ الحالة تكون الوسيلة المثلى للوصول إلى الحقيقة المطلقة ( كما جاء تفسيرها في الجزء الأول من هذهِ السلسلة ) الخاصة بالدين تكمن في البحث عن الدوافع والأسباب التي استدعت هذا المنهج في التفكير، وليس في الحدث نفسهُ. أما بالنسبة إلى طريقة الحكم على تلك الدوافع والأسباب فإنها تكون باستخلاص النتائج التي حصدتها تلك الشعوب جراء إتباع هذا الدين والمنهج أو ذاك، فهذا هو الهدف من جراء اتخاذ أي مخلوق أو كائن في هذا الكون لأي فعل، فالعبرة بالخواتيم وليس بالفعل نفسهُ، والتاريخ خير دليل أو مرجع لهذا الشأن أو ذاك. بمعنى أنهُ يتوجب علينا معرفة الهدف أو الغاية التي دفعت هذا الإنسان لإتباع هذا الدين تحديداً. فعلى سبيل المثال هناك دين يقول لك افعل كذا وكذا، فإذا أحسنت الفعل فإنك ستحصل على مال وفير أو عندما تموت ستتحول إلى مخلوق نبيل أو قوي أو عظيم أو أي شيء كنت تحلم به أو تريدهُ ولا تستطيع بإمكانياتك الحالية أن تنالهُ، فإذا تحقق لذلك الشخص ما أرادهُ كان الحكم على ذلك الدين إيجابياً والعكس صحيح. ففي النتيجة وكما جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلم: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل إمرىءٍ ما نوى، فمن كانت هجرتهُ إلى الله ورسولهِ فهجرتهُ إلى الله ورسوله ومن كانت هجرتهُ إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرتهُ إلى ما هاجر إليهِ. بمعنى آخر فأن عمل بني آدم مناطٍ بنيتهِ ومقرونٌ بدوافعهِ ومتوقف على أهدافهٍ ومربوط بأسلوبه في الوصول إلى أهدافهِ.

فعلى سبيل المثال نجد الوثنيين كالبوذيين أو السيخ يعبرون عن سخطهم وعدم رضاهم على الواقع الذي يعيشون فيهِ عن طريق إقناع النفس بتحولها بعد الموت إلى إنسان نبيل أو شريف أو ما إلى ذلك من ألقاب عزلتهُ عن السعادة حسب رأيه، وفي فصول الكتاب القادمة سوف نطرح الدوافع والأسباب بخصوص مجموعة مختارة من الفئة أو المذاهب أو الطُرق.  

أما بالنسبة للمسلمين فهم يطلبون جنة الخلد ونعيم دائم وسعادة أبدية تتوج بملاقاة وجهة الله الكريم، وإنهم ليجدون في الدين الإسلامي ما يعطيهم القاعدة والأساس الفكري الضروريين ليغني قناعتهم بهذا الشأن فيطمئنوا بكون هذا الدين الإسلامي سيصل بهم إلى هذا الهدف. وهذا المثال ينطبق على جميع الأديان السماوية الموحدة والداعية إلى جنة الخُلد عرضها السماوات والأرض أُعدَّت للمتقيين اللذين َيتقون الله ويخشون عذابه. أما التفاوت في الطرح والملاحظ عند مقارنة الكتب السماوية، فإنهُ يعود إلا الانحراف في الهدف المنشود بتفضيل مصالح شخصية وفردية ومحاولة إعطائها الشرعية الدينية اللازمة عن طريق دس بعض المفاهيم المغلوطة بين النصوص السماوية. ولا أكون منحازاً أو متطرفاً عندما أُزكي الدين الإسلامي القائم على أساس القرآن الكريم ككتاب مقدَّس خالص التقديس، مرسل من ربِّ العالمين إلى عبادهٍ المخلصين عن طريق سيد المرسلين محمد ابن عبد الله خاتم المرسلين عليهٍ أفضل الصلاة وأتم تسليم. خصوصاً ونحن نرى الثبات في المفاهيم المطروحة والتي ما زالت توفِّر الراحة والسكينة للمؤمنين وتمنحهم الثبات واليقين على مر الزمان، وذلك منذ ما يزيد عن ألف وأربعمائة من السنين إلى وقتنا الحالي، وأساس هذا اليقين هو بقاء هذا القرآن الكريم دون تحريف أو تزوير سالماً من أي زيادة أو نقصان رغم انتشاره في جميع الأوطان على مر الأزمان، والدليل على ذلك دليل مادي وملموس، فكثيرٌ هي المصاحف القديمة الموجودة في الشرق والغرب وعند العرب والعجم ولكن وإلى هذهِ اللحظة وحتى يرثُ الله الأرض ومن عليها لن نجد ولن يكون هناك أي اختلاف رئيسي في نصوص المصحف الشريف وآياتهِ في أي مكان أو أي زمان، فمن هذا المنطلق كان الإسلام وما زال، ومن هذا المنطلق كان دين الله الحق. ولا نجد في أيٍ من الديانات الأُخرى من غير الإسلام ما يتمتع بهذهِ الصفة الفريدة التي تُعد من المعجزات الحقيقية ببقائها وثباتها على صورتها الأصلية كما أرسلها الله على رسوله الكريم، فعلى الرغم من وجود بعض الأديان التي تٌأخَذ في نظرِ الإسلام على إنها أديان سماوية حقيقية، لكنها لم تتصف بهذه الصفة الأساسية المهمة وباعتراف القرآن نفسهُ ككتاب منَّزَل من ربِ العالمين، هذا إضافةً لاعتراف أصحاب الديانات تلك على كونهم لا يمتلكون النسخ الأصلية كما وردت من المصدر، وإنَّ الذي بيدهم إنما هو ما يمكن اعتباره من عند الله وما هو من عند الله، فوجود التدخل البشري في أغلبية النصوص من التوراة والإنجيل واضح وجلي للعيان ولا يحتاج ذلك إلى خبير خطوط أو خبير في اللغة، فوجود النزعة العنصرية والقبلية بين النصوص التوراتية واضح وجلي للجميع، وهذا على الرغم من عدم نكران تلك الأطراف بشأن التطرف القومي الموجود في الدين اليهودي والذي ينحاز إلى سُلالة محددة من البشر وتغليبها على السلالات الأخرى، وبشأن التطرٌّف الفردي في الدين المسيحي والذي ينحاز إلى بعض الأفراد وإعطائهم قدسية ورهبانية تمييزهم عن باقي خلق الله من الناس.

وسيتم شرح هذهِ الأمور في التفصيل وبأسلوب علمي وعملي عندما نتجول في الفصول الخاصة بالدين اليهودي والدين المسيحي في هذا الكتاب إن شاء الله.

أما بالنسبة للديانات الأُخرى والتي تتحدث عن العديد من الآلهة والتي تحاول إقناع الناس بوجود الفروق العرقية والطبقية بين الناس لتصل في كثير من الحيان إلى رفع بعض المتنفذين من الناس إلى درجة الآلهة بادعائها أن فلان من سلالة ألآله فلان، أو إن تلك المجموعة مقربة للآلة دون المجموعات الأخرى وأن المجموعات الأخرى قد خُلقت من عبيد، لترسخ مجتمع السادة والعبيد فيها.... وهكذا. ففي النهاية نقول بأن الإنسان على الأرض لهُ طموح ونزعات ورغبات متفاوتة، وإنما الدين جاء ليلبي هذه الرغبات. فالذي يريد أن يبقى عبداً مهاناً عليه أن يتَّبِع ذلك المنهج الذي يُرسِّخ فيهِ صفة العبودية، والذي يريد أن يكون سيداً متسلطا ظالماً وجهولاً يتبع المنهج الذي يؤكد فيهِ هذهِ الصفة، أما من يريد أن يعيش مخلداً في جناة النعيم وقريباً من الرحمن ليعيش إلى الأبد عيشة سعيدة وطاهرة ونقية، فعليهِ أن يتبع منهج الإسلام الذي فيهِ السلام والأمان. أعود وأقول أن هذا الأمر لا يوجد فيهِ تحُّيز، فالمؤمن بالله الواحد عليهِ أن يتقبل وجود الكافر بوحدانية الله ، وذلك لكون لولا وجود الكافر لما وجد المؤمن والذي يؤمن بالله الواحد عليه أن يسلم بحقيقة كون أنَّ هذا الوضع ما كان ليتم لولا رضي الرحمن العادل الحق بهِ . فكلنا في هذا العالم سواسية ، أما التمايز الوحيد فهو في تقوى الله وطاعتهِ. فالشخص الذي يكتفي بهذهِ الحياة الدنيا وبغض النظر عن وضعهِ فيها ، لتكون حدهُ و طموحهُ تقف عند موتهِ، لهُ ذلك ولا يستطيع أن يلوم أحداً سوى نفسهِ. والذي يريد الآخرة وسعى سعيها لهُ ذلك أيضاً ولله المصير. أما وجود الأديان، فما جاء إلا ليحقق هذهِ المعادلة، والله أعلم. إذا حقيقة الدين تتجلى لنا عندما نتعامل مع الكلمة كمصطلح لغوي ، انعبر من خلالها عن مجموعة أفكار محددة ، والتي من المفترض أن تقود الإنسانِ بدورها إلى ردود أفعال معينة . بهذهِ الطريقة يتسنى لنا فهم الأهمية من وجود الدين في حياة الإنسان ، وبالتالي معرفة السبب الذي تمَّ على أساسهِ إيجاد هذا المصطلح أو التعامل معهُ. فالدين كمفهوم فكري نجد ذكرهُُ في جميع لغاة العالم ، كلُ حسب بيئتهُ ولغتهُ وطريقة لفظهِ. وأهمية الدين نجدها في كونهِ يلعب دوراً كبيراً في حياةِ الإنسان ، فعن طريق الدين يتم تحديد طريقة الزواج وطريقة الإنجاب وبالتالي تأسيس نواة المجتمع ، وعن طريق الدين يتم رسم الحياة العامة والخاصة لدى أغلبية المجتمعات البشرية وذلك منذ أن وعى الإنسان لوجودهِ . ولا يفوتنا التنويه هنا بأنهُ وعن طريق الدين كذلك تُعلَن الحروب وتَصدُرالأحكام وتُقَام الشرائِع . وبمعنى آخر فإنَّ الدينُ يدخل في تكوين حياة الإنسان منذ البداية، أي وهو جنين في بطن أمه، وحتى النهاية أي عند وفاتهِ،

ولا يمكن لأي فلسفة أو فكر أو منهج أن ينجح عند المجتمعات البشرية دون أن يكون لهُ غطاء ديني ليكسبهُ الشرعية اللازمة ، وذلك حتى يكون مقبولاً لدى العامة والخاصة من الناس.

وللحصول على الحقيقة الكاملة فيما يخص الدين كان لِزاماً علينا بأن نتعامل معهُ في إطاره العام والشامل، غير محصوربشعب أو فئة محددة من الناس، وبمعنى آخر علينا أن نبحث عن مصدر هذهِ الكلمة. والمقصود بالمصدر هنا هو الدافع النفسي والذي بمقتضاه تمّ إيجاد هذا المصطلح.

فبهذه الطريقة فقط يمكننا أن نفهم المعنى الحقيقي لهذهِ الكلمة.

فمن المتعارف عليهِ عندما نريد نحن البشر أن نتحقق من شيء ما، فعلينا بأن نردهُ إلى أصلهِ ونبحث عن منبعهِ ، وهذهِ الحكمة تنطبق على كلِ شيء تقريباً، لأنهُ في معرفة الأصل والمنبع نكون قد أحطنا بالظروف والمسببات التي أوجدت هذا الشيء. هذهِ قد تكون قاعدة عامة ولكوننا هنا بصدد البحث عن كلمات ومصطلحات ، أي إننا بصدد البحث في اللغة بشكل عام ، يستدعينا ذلك للبحث عن تعريف للغة بحد ذاتها لكونها الوسيلة الدارجة للإبقاء على التواصل الفكري بين الأفراد والجماعات في المجتمع الإنساني. ولا يفوتنا هنا بأن نشرح أهمية موضوع اللغة في محاولتنا لفهم حقيقة الدين، ففي طرحنا هذا سوف يتم نوضيح طبيعة العلاقة بين الدين واللغة . قد يستغرب بعض القرآء مناقشتنا لبعض المسطلحات والمفاهيم البدائية كالدين واللغة ، ولكن الغريب في الأمر هو مع كثرة التفسيرات والإجتهادات الخاصة بهذهِ المصطلحات ، ولكننا لانجد أي توافق في أيٍ من التفسيرات تلك ، بل هو التخبط في عينه والهروب من الحقيقة. فكيف يكون هناك إتفاق وإجماع شامل من قبل جميع شعوب الأرض على قضايا كالمأكل مثل الوجبات السريعة والمشرب مثل المشروبات الغازية والملبس مثل البدلة الرسمية وطرق العيش مثل الشقق المرتفعة ونوعية الرفاهية مثل السيارة ، وكلها أمور مستحدثة وجديدة لم يألفها الإنسان طوال قرون عديدة مضت ، ولا يكون هناك إتفاق بين الجماعات البشرية الصغيرة بل بين الأفراد والمثقفين من بين الناس على أُسس ومباديء إنسانية رافقت الإنسان منذ وجوده ونشأتهُ على الأرض وإلى هذهِ اللحظة،. ولا يجب أن نستهين بهذهِ المسألة فهناك الكثير من الأرواح التي زُهقت بسبب عدم الإتفاق الخاص بالدين أو اللغة ، ناهيك عن الأعراض التي أُنتُهكت والأملاك التي سُلبت والحقوق التي أُغتصبت. فماذا يمكن أن يحدث أكثر من ذلك حتى نعود لنحكِّم العقل والمنطق، فنجلس سوياً نحاول أن نجد إتفاق بخصوص هذا الأمر ، وهذا الأمر ليس بالمستحيل أو الصعب . فلدينا التاريخ الذي يضع أمامنا نتيجة كل تصرف أو فكر جماعي ، ولدينا العلم الذي يجعلنا قادرين على فهم الأمور على حقيقتها ، ولدينا الحكمة التي تضع المور على نصابها، ولدينا التكنولوجيا التي تتيح لنا إشراك جميع الطوائف والمِلل لحسم هذهِ المواضيع، وكذلك لدينا القوة التي نستطيع من خلالها فرض الحق وإجبار المتخاذلين والمفسدين في الأرض ليصغو إلى صوت الحق والمنطق والضميروالوجدان الإنساني. فمطلبنا هنا ليس بالكبير أو المستحيل ، بل هو من المسلمات التي لا بُدَّ لنا أن نواجهها عاجِلاً أم آجِلاً ، ودليلنا على ذلك هو التقارب الكبير الحاصل حالياً بين الشعوب، والذي يشمل جميع نواحِ الحياة الخاصة منها والعامة، فلعل فرد في أفريقيا يعلم ما يحصل لفردٍ آخر في الصين في الدقيقة والساعة وذلك رغم عدم علمهِ بما يحدث لدا جارهِ الملاصق لبيتهِ . ولا يخفى على أحد طموح كل إنسان واعي ومثقف وبغض النظر عن هويتهِ وجنسهِ نحو السعي لتعلم اللغة وطريقة العيش التي تجعلهُ يتنقل بين جميع بلدان العالم بكل حرية . ففي هذا الزمان لا يوجد حدود فكرية أو ثقافية أو إجتماعية ، الحدود موجودة فقط على الورق . وإننا لنجد في كل ثانية أو دقيقة بعضُ من اهلنا هنا أو هناك في جميع أقطاب الأرض ، بل إننا بعضهم لا يزال معلق في الهواء داخل طائرةٍ ما متجهاٍ إلى مكانٍ ما. والذي نريد أن نؤكدهُ بعد هذا السرد هو ضرورة التوجه نحو الوحدة كجنس بشري وننسى الحدود والمجتمعات واللغات وجميع الفوارق النفسية التي تفرق بين إنسان وإنسان دون أدنى سبب أو معنى . وفي ما يلي من الفصول سوف يتم إن شاء الله شرح وتفصيل جميع الحجج والفوارق التي ساهمت بشكل كبير طوال قرون مضت في إيجاد أسباب الفرقة والنفور بين المجتمعات البشرية، مثل اللغة والعادات والتقاليد وهكذا. حيث سيتم من خلال الشرح محاولة الرجوع إلى أصل كل تصرف إنساني ، باحثين عن النبع والأصل ، وذلك لقناعتنا بإيجاد التفسير المنطقي الوحيد لكل تصرف أو صفة بشرية عندما نجد الأصل أو النبع لهذهِ الصفة أو التصرف. ولا يغفى علينا صعوبة هذهِ المحاولة خصوصاً ونحن نتحدث عن عدد من البشر يقارب السبعة مليار ، وهو العدد الذي لم تصل إليهِ البشرية في أي زمان سابق أو مكان ، وذلك ضمن التأريخ الإنساني المعروف لدينا، وضمن ما نمتلكهُ من معلومات وقرائن وإثباتات موجودة بين أيدينا. وتكمن الصعوبة هنا في محاولة إيجاد وضع جديد ، يكون من مميزاتهِ وحدة المشاعر الإنسانية والثقافات البشرية والنوازع الشخصية والطموح الفردية وما يتبعها من عادات وتقاليد ، وإيصالها إلى درجة نبذ وخلع ما كان موجوداً وقائماً وإستبدالهُ بلباس جديد وموحَّد ونموذجي. قد يرى بعض من القراء إستحالة إيجاد وضع كهذا، والذي يمكنني أن أقولهُ هنا هو إستحالة إستمرار الوضع السابق ، وأنَّ هذهِ الفكرة ليست بالجديدة أو الغريبة بقدر غرابة فكرة بقاء الوضع على ما هو عليه . أما الصعوبة الحقيقة تكمن في البحث والتمحيص في الكتب والمراجع لأيجاد تلك الصيغة المثالية والنموذجية التي يمكن أن يتقبلها الجميع دون إستثناء ، والمقصود بالجميع هنا هم جميع سكان الأرض من بني البشروالبالغ ما يقارب السبعة مليارات. وبالنسبة لنا كمسلمين فالصيغة موجودة ، أما الشكلة فهي في الطرح ، فطرحنا للإسلام وتعاليمه وأهدافهُ يجب أن يكون بالصورة المثالية التي يقبل بها الجميع دون حرج ، بحيث يتم من خلال هذا الطرح الإحاطة بجميع نوازع وتطلعات الجنس البشري ككل دون إستثناءٍ لأيٍ كان. ومن أجل هذا كانت هذهِ السلسلة من الحقائق ، آملين من خلالها بأن نصل بالجنس البشري إلى تلك المرحلة التي تؤهل الناس جميعاً إلى الوصل الى الهدف المنشود في توحيد الجنس البشري بجميع شعوبهِ وفئاتهِ تحت راية واحدة ودين واحد وهدف واحد. وما توفيقي إلى بالله ، وعلى الله الإتكال، والحمد لله ربِ العالمين.


حقيقة اللغة

اللغة في الأصل هي عبارة عن محاكاة بين طرفين أو أكثر، والمصدر من المٌلاغاة ، والفعل يُلاغي قد جاء في اللغة العربية بمعنا يحاورأو يُحاكي ، ويقصد منها الأخذ والعطاء في الكلام ، ويحدث هذا عادةً بصورة مباشرة أو غير مباشرة ليتم من خلال هذهِ المحاكاة نقل المشاعر والأحاسيس والأفكار التي تجول في عقل الطرف الأول إلى الطرف الآخرأو الأطراف الأخرى، وتعتبر اللغة إحدى وسائل الإتصال النفسي أو الروحي ، وذلك في محاولتها لإستغلال الحواس الموجوده لدى الكائنات الحية لإيجاد نوع من التواصل والروابط بينها ، فيُثبت دعائم وجودها وإستقرارها، فأي كائن حي بحاجة إلى نوع من التواصل مع الكائنات الأخرى سواءاً كانت من جنسهِ أم من جنس آخرليكون كنوع من إثبات الوجود بين الآخرين . وهذا ينطبق على جميع الكائنات الحية ، فمثلاً بالنسبة للخالق وهو الله جلَّ جلالهُ ، فهو يُعلن عن وجودهِ أمام البشر عن طريق الرسل والأنباء وبالطرق المحسوسة ليدرك الناس بأنَّ هناك خالِق ، فالمخلوق الذي يتنكر لخالقهِ لحاجة في نفسهِ ، يقوم بالتنكُّر لوسائل الإتصال تلك . أما العبد المؤمن والذي يُدرك أهمية وجود الخالق بكونهِ مخلوق ، فهو يبحث عن وسائل الإتصال التي تقربهِ من هدفهِ في التعرُّف على خالقهِ عن طريق إيجاد طرق المحاكاة والتواصل تلك ، ويتم ذلك عن طريق التصديق بالرسل والأنبياء والكتب السماوية المرسلة للعالمين . أما الإنسان فهو كنتيجة لتخبطهِ في عالم ليس عالمهِ ودنيا ليست دنياه( فالإنسان مخلوق سماوي ُمرفه ، حيث كانت اول نشأتهِ فيها وكانت لهُ فيها السيادة على جميع خلق الله ومن ضمنهم الملائكة والشياطين، فملكهُ وأرضهُ وراحتهُ ومستقرهُ في الجنة) وذلك بناءاً على ما جاء في الكتب السماوية جميعاً، كان سعيهُ الدائم نحو التمييز المفرِط ، حيث يؤدي به الحال أحياناً للتمرد على واقعهِ ، تماماً كما حدث معهُ أول مره عندما كان في جنة النعيم ، فيؤدي تمردهُ هذا إلى عزلهِ هو ونسلهِ فيضطر إلى إستحداث عالم آخر يكون فيهِ السيد ، وهذا يشمل المكان والطعام والعادات ليصل بهِ إلى إستحداث مصطلحات جديدة لتكون بعدها لغة جديدة ، يعتز بها ويقدسها ويٌفضلها عن إي شيء آخر، وبتكرار الحالة مرات ومرات ، وجد الإنسان نفسهُ أمام آلاف اللغات وآلاف العادات والتقاليد ، والتي لا تختلف في مضمونها عن الأصل سوى كونها تشبع غرور هذا الإنسان أو ذلك بسعيهِ نحو التمييز الضائع، والدليل على سردنا هذا هو واقعنا الذي نعيشهُ ، فبسبب إعترافنا بحاجتنا كبشر إلى بعضنا البعض ، تنازلنا عن ذلك التمييز الفارغ لما هو أهم وأسما وأعظم ، ألا وهو الوحدة في الجنس كبشر، فأصبحنا نبحث عن لغة مشتركة وحياة مشتركة وتقاليد مشتركة، وتمَّ إلغاء جميع مظاهر التفرقة والتمييز بين الناس ، لدرجة وصول البشرية إلى مرحلة التخلي عن التمييز المادي الذي كان أساس التفرقة والنفور بين الناس، فلم يعد الغني متميزاً عن الفقير، لتكون النهاية هي الوحدة بكل معانيها . دليلنا المادي والملموس على ما تمَّ ذكرهُ آنفاً هو وبكل بساطة مانجدهُ ونلمسهُ عند مراقبتنا للمخلوقات الأُخرى والتي تشاركنا حياتنا الأرضية ، فبإعتراف القاصي والداني ومهما كان الخلاف أو المغالطة على تفسير نشأة الخلق وبدايتهُ ، فالإنسانية إبتدأت من ذكر وأُنثى ، شأنها شأن جميع المخلوقات من حولنا. ومن البديهي أن تكون لأول عائلة بشرية لُغة تتفاهم بها، شأنها شأن المخلوقات الأُخرى ، إذا فلماذا هناك لغة واحدة ودائمة منذ أن خلق جنس الحصان مثلاً وهي الصهيل ، ولجنس الحمير وهي النهيق ، ولجنس الأسود وهو الزئير، ولجنس طيور الكروان وهي التغريد، حيث لم يعرف الإنسان لهما أي لغة أو مصطلح لغوي آخر، أما الإنسان فلهُ آلاف اللغات والمصطلحات والمفاهيم لِتَدل على معنى واحد. وقد يشكك بعض المتغابين ليدعي بإمكانية وجود إختلاف في لغة حصان غربي وحصان شرقي وإنما مصطلح صهيل الحصان كان واحِداً ، فأقول لهُ بأنَّه صوت ورنين وموجات وترددات المخارج الصوتية هي ذاتها عند الجنس الواحِد بالنسبة للحيوانات ، أما بالنسبة للجنس البشري فحدث ولا حرج. وبالنسبة للذين يدعون بتطور اللغة عند الإنسان مع تطور عقلهِ ومفاهيمهُ ويرفضون أي مقارنة بينهُ وبين المخلوقات الأخرى كنوع من إصرارهم على الغرور والفجورأقول لهم وأُكرر بأن اللغة كانت وما زالت وستبقى وسيلة محاكاة وتعبير عن الذات، بمعنى أنَّ مفهوم التطور لا يخدمها هنا ‘ فإنك تطور سيارة لتجعلها أسرع ، وتطور طائرة لتكون مريحة أكثر ، وتطور قِطاراً لتجعلهُ أكثر أماناً ، فماذا يمكن أن يطور باللغة ، فبالنسبة للغة إما أن يكون هناك شيئاً تريد أن تقولهُ أو تُعبِر عنهُ ليفهمهُ الآخرون ، أو لا يكون. وبالتالي سواءاً كان الإنسان يركَبُ حماراً أم سيارة فمصطلح التنقل والركوب يبقى واحِداً، فالإنسان كغيرهِ من المخلوقات لا يمكن أن يتطور كجسد وكروح، فمتطلباتهِ وحياتهِ منذ أن أدرك وجودهُ كانت وماتزال وتبقى محصورة بثلاث عناصر وهي الغذاء والمسكن والعائلة. فبتوفر هذهِ العناصر الثلاث ، توفرت الإستمرارية في البقاء، شأنهُ شأن غيرهِ من المخلوقات. إذا فالرغبة في البقاء والإستمرارية هي ذاتها منذ الأزل وعِند جميع المخلوقات، وليتم توفير هذهِ العناصر الثلاث كانت الحاجة محاكاة الغير من الجِنس لنفسهِ، فعن طريق هذهِ المحاكاة سيتم التوصل إلى طريقة لتوفير الطعام ، وطريقة لبناء المسكن ، وكذلك طريقة لتكوين عائلة ، وكلها أساسيات للحياة ، لا غِنى لأي مخلوق عنها، ولا تتم إلا بملاغاة الآخرين والتواصل معهم ، وأنسب طريقة لتحقيق ذلك هي اللغة ، شأنهم شأنَ جميع من حولهم . وبسبب الإدراك الحالي لهذهِ الحقيقة ، كان السعي نحو التوحُّد في أساسيات الحياة. وبشكل عام فالطريقة المثلى لإيجاد ذلك التواصل كان وما زال عن طريق الحواس والذي يتم من خلالها الإستشعار بالمحيط وبالتالي إدراك خصائص ومميزات الكائنات من حولهِ . حيث يتم بعدها تقدير مدى الحاجة لإيجاد أي نوع من المحاكات ، وإن لم يتم ذلك فسوف يقوم بمثابة إلغاء وجود ألطرف الآخر ككيان مستقل بالنسبة للطرف الأول . ويمكن تقسيم اللغة إلى عدة أنواع ، نسردها كما يلي:


1- اللغة الصوتية : وهي طريقة المحاكاة والإتصال عن طريق المخارج الصوتية الصادرة من الطرف الأول ، حيث تلعب حاسة السمع الدور الرئيسي فيها.

بالنسبة للإنسان فإنَّ الصوت  يصدرعادةً من المخارج الصوتية الموجودة في الحنجرة ، ويحدث الصوت عن طريق الذبذبات التي تحدثها الأوتار الصوتية الموجودة في حنجرة الإنسان نتيجة إحتكاكها بالهواء الذي يمر وبصورة إرادية من خلالها ، فيقوم الهواء بنقلها لتصطدم بأجسام حسَّاسة عند المتلقي ، حيث تعمل تلك الأجسام الحساسة إلى تحويل تلك الذبذبات إلى شحنات كهربائية وترسلها إلى مراكز التحليل في الدماغ ، فتعمل تلك المراكز إلى تحليل الشحنات بالصورة التي تجعلها مفهومه ضمن الإطارإستيعاب المتلقي ، أما بخصوص الحالات الأخرى الموجودة لدى الكائنات الأخرى  فهي متعددة وكثيرة ، لدرجة أننا نجد لكل كائِن حي طريقتهُ الخاصة في المحاكاة وإخراج الأصوات ، وعليهِ فإما أن يكون هذا النوع من المحاكاة مفهوم من الآخرين أو لا يكون ، ويعود ذلك إلى رغبة الطرف الأول في إيصال المعلومة بشكل صحيح للطرف الآخر وفي ما إذا كانَ له القدرة على إيصالها.

فقد يكون عند الطرف الأول الرغبة في محاكاة الطرف الآخر ولكنهُ لا يستطيع ، لأن المقصود في المحاكاة هنا هو رغبة الأطراف في تبادل الآراء والأفكار، على أن تكون هذهِ الرغبة متبادلة ومدعومة بالوسيلة الصحيحة ويشترط توفرها بين الطرفين. وتُعتبر الأصوات الصادرة عن الأجهزة الموسيقية ( وهي مواد جامدة في حقيقتها لا حياة فيها ) عبارة عن أصوات تمَّ إخراجها من مواد جامدة ، لا تستطيع الكائنات إخراجها بمفردها ، فيتم الإستعانة بتلك الآلات ، ففي النتيجة هي لغة كباقي اللغات ، وهناك كائنات تفهمها وتتعامل معها بكل جدية ، وهناك كائنات أُخرى لا تفهمها، وهذا الكلام يشمل البشر والكائنات الأُخرى. فعندما ننظر إلى أصل تلك الأصوات فإننا نجد بأنها قد وجدت أحياناً كنوع من الإعلان عن حالة معينة مثل وجود غزو أو التنفير للحرب وأحياناً للإعلان عن فرحةٍ ما أو حُزن وهكذا. فالأصوات الصادرة عن المواد والأجهزة تتميز بقوتهاِ ومداها البعيد المسموع من بُعد ، فهذهِ الميِّزة عززت من إنتشارها ، بسبب إدراك الإنسان بأنَّ الموسيقى إنما هي في حقيقتها لغة. أما وجه التحريم الذي يُردد أحياناً من النظرة الشرعية الإسلامية فإنما جاء نتيجة إنحسار الموسيقى في المجتمعات الإنسانية لتعطي الإنطباع في مظمونها عن اللهو والعبث والغرورأو الفجوروتلك الصفات مُحارَبة في الإسلام ، فالغرور والعبث أو اللهو إنما من صفات الشر اللائق بأهل النار فقط ، ولا يجوز لأي مسلم أن يكون مغروراً أو عابثاً ، فكان من الطبيعي توعية الناس لهذهِ الحقيقة . فالمسلمون أُناس مُحبون للطبيعة بشكل خاص ولِكل ما خلق الله عزَّ وجل بشكل عام، والموسيقى ما هي إلا عبارة عن أصوات صادرة نتيجة إحتكاك أو تصادم مواد ببعضها البعض ، إما بإرادة الإنسان أو بغير إرادتهِ ، وسوء الإستخدام لإي شيء في هذا الوجود لا يؤدي بأي حال من الأحوال إلى إلغاء وجوده ، بل الحكمة تكون في تحييده والسيطرة عليه وتقزيمه بالصورة التي تلغي أي تأثير سيء لهُ . الحكمة هنا نستمدها من حكمة الخالق العزيز الحكيم عندما تعامل مع الشيطان الذي فيه الشِّر كلهُ بتحيِّده ونبذهِ وتقزيمه ، ولم يلغي وجودهٌ والله قادر على كل شيء سبحانهُ.


2- اللغة المرئية: وتتميَّز هذهِ اللغة عن الطريقة الكلامية بعدم وجود الذبذبات الصوتية بل تتم عن طريق تحريك جزء عضوي أو مادي مرئي ليتم من خلال هذهِ الحركات المدروسة إعطاء وصف لوضع معين، حيث تلعب العين الطرف الرئيسي فيها ، وقد تكون هذهِ اللغة مباشرة أو غير مباشرة، بمعنى أنهُ لا يشترط وجود الأطراف الداخلة في عملية المحاكاة في مكان واحِد أو في وقتٍ واحد، كالكتابة مثلاً ، ففي الكتابة يتم تحريك الأصابع لتحرك بدورها قلم أو ما شابه ، فيقوم هذا القلم بترك آثار محددة تستطيع العين تمييزها بالصورة التي تجعلها تستقبل المحاكاة أو الإتصال الصادر من الطرف الأول، ومن هذهِ اللغة تتفرع لغة الصم والبكم، فهذهِ اللغة تعتمد على العين في مراقبة الأشياء وتمييزها حتى تكون مفهومة لدى المُتلقي. وتبرز أهمية هذهِ اللغة بتنوعها. فهي تظم الكتابة بأنواعها كالشعر والنثر والفنون الحركية كالتمثيل والرقص والفنون التشكيلية كالرسم والنحت ، فأساسها يعتمد على إيجاد طرق غير صوتية لمحاكاة الطرف الآخر والإتصال بهِ من خلال اللاوعي ، حيث يمكن إعتبار التنويم المغناطيسي من أهمها كونهُ يبرز رغبة إنسان معين على محاكاة إنسان آخر والتأثير به عن طريق اللاوعي من خلال العين. فمثلاً الشعر والنثر وعلى الرغم من كونهما يعتمدان على إستخدام ألفاظ منسقة بإسلوب معين وغير تقليدي ليجلب إنتباه المتلقي ويؤَثر به، فهما بالأصل تم إيجادهما بسبب رغبة المصدر في محاكات اللاوعي عند أُناس غير ناسهِ وأزمان غير زمنهِ ، والدليل على ذلك هو حرص الشاعر أو الأديب على تدوين عملهِ ليكون مقروءاً بالعين المجردة ، وليس فقط مسموعاً . أما كون المادة تُقرأ فهذا لا يلغي عنها صفة اللغة المرئية ، فأي عمل إنساني يخرج من دائرة الصوتيات إلى دائرة المرئيات يصبح لغة مرئية ، وإنَّ تمَّ تحويلها بعد ذلك إلى صوتية ، لأن لغة الصوت لا يُقصد بها الديمومة والإنتشار بالمقارنة مع اللغة المرئية. وبخصوص اللاوعي عند الإنسان فهذا موضوع سيتم بحثهُ لاحقاً في خصوصيه تامه ، وذلك لأهميتهِ وخطورتهِ ، حيث سندرك هذا الأمر عند معرفتنا لمدى التأثيرالذي يحدثهُ على الناس بطرقهِ الغير مباشرة. أما ما يخص الفنون الحركية من رقص وتمثيل فهي متنوعة ومُختلفة كإختلاف مقاصدها وأهدافها ، فهي من ناحية المصدر كانت تستخدم لأغراض محددة . مثال ذلك عندما نفترض وجود مجموعة من البشر في مكان خطِر، يُحتم عليهم التظاهر بمظهر يختلف كُلياً عما هم عليهِ لتوحي لنفسهم ولِمن حولهم بأنهم قومٌ أقواء ومتمكنِين، لتجعل العدو أو المنافِس لهم يتردد كثيراً قبل أن يتَّخِذ إجراء يُهدد وجودهم وكيانهم ، وهذا يدقعهم إلى القيام بحركات معينة لتضهر فيها قوة رجالهم، وقد يصاحب هذهِ الحركات أنغام معينة من الموسيقى لتوحي بمدا التناسق والنظام في حركات أولائك الرجال فيبعث في نفس المنافس مدى صعوبة تفرقة هذا الجميع والوصول بهِ إلى مرحلة التخبط ، فيتوقف عن مهاجمتهم. هذا النوع من التصرف معروف جيداً لدى جميع الكائنات الحية ، فالتظاهر بالقوة والبأس الشديد هما من المسلمات لدى المخلوقات جميعاً ، وهذا من المنطقي أيضاً ، فإذا كان تظاهري بالقوة يغنيني عن القتال لإظهار قوتي الحقيقية فلماذا لا أفعل ذلك . وعليهِ فإظهار القوة المرئية هو أفضل بكثير من إظهار القوة الفعلية . وإننا لنجد بأنَّ المخلوقات جميعاً تفهم جيداً أهمية النظام في دعمهِ للقوة المرئية ، لكونهِ دليل قوة وحسم وهو عكس التَخبُط والتشتت ، مما يجعلهُ من أساسيات الحياة . مما سبق شرحهُ يتضح لنا أهمية الرقص كحركات جماعية منسقة ومنظمة القصد منها إظهار المجموعة بصورة أفضل بكثير مما هي عليهِ. أما التمثيل فهويختلف عن الرقص بكونهِ من الحركات الفردية وليست الجماعية ، ولكونهِ من الحركات الفردية فهو منتشر على النطاق الشخصي ، ومن خصائصهِ إظهار حالة الشخص بصورة مختلفة عما هو عليهِ في الحقيقة وذلك لسبب معين ، قد يكون مادي أو معنوي. فالتمثيل في حقيقتهِ ما هو إلا تقمُّص لشخصيات الآخرين ، ولا يقتصر وجودهُ على الإنسان ، بل يشمل جميع المخلوقات، كلٌ حسب إحتياجاتهِ. والمتتبع لتصرفات المخلوقات من حولهِ يجد أحياناً بأنَّ الطائر يتظاهر بالمرض والعجز ليبعد الحيوانات المفترسة عن صغارهِ ، أو بنفش ريشهِ ليظهر بمظهر أكبر مما هو عليهِ وهكذا....... عندما نعود للغة نجد بأنَّ الرقص والتمثيل من اللغاة المهمة والقوية لدى المخلوقات ، كونها تساعدهم على إقناع الأطراف الأُخرى بتقبل صورة محددة عن الفرد أو الجماعة ، دون اللجوء إلى التفاصيل ، مما يسهل ذلك على الفرد للعيش في المجتمع دون الحاجة لأظهار نقاط عيوبهِ و ضعفهِ، ويسهل على الجماعة بمواجهة التحديات بنجاح وجداره ، دون الحاجة إلى المخاطرة بوجودها وبكيانها المستقل، ومن هنا كانت أهمية الرقص والتمثيل. ووجه التحريم من النظرة اللإسلامية الخاص بهما شأنهما شأن الموسيقى، فعلى الرغم من الفائدة العظيمة التي يُعطيها الرقص والتمثيل للفرد أو الجماعة ، ولكونهما يمتلكان تلك الخاصية الكبيرة في التأثير على مجريات اللأمور بل القدره على تغييرها ، فإننا لنجد سوء الإستخدام يطغى على حُسنهِ، فيُستغل الرقص والتمثيل في زرع الفِتن ونشر الفساد وإفساد الذوق العام ، مما إقتضى تحريمهُ في العديد من المواقف ، لوضع حد للتسيُّب وإعادة ضبط الأمور في مسارها الصحيح. وبالنسبة للرسم والنحت فهما طرق لغوية حركية ، فالرسم بالنسبة للكائنات الحية هو التفنُن في إختيار الألوان ودمجها وتشكيلها بصورةٍ محددة حتى تُعطي إنطباع محدد لدى المتلقي . ويستخدم الرسم في الأصل من قبل المخلوقات كلغة ، مستغلة بذلك الألوان وما ترمز إليه ، فلأحمر على سبيل المثال يرمز للدماء والقوة، والأصفر يرمز للنقاء والنعومة ، والأخضر يرمز إلى الحياة وهكذا ، فلألوان لها تأثير مباشر على مشاعر الإنسان ، فهي تأرتاً توأجيجهُ وتارتاً تهدئهُ ، شأنهُ شأن المخلوقات جميعاً ، وخير مثال معروف هو في إستغلال مصارعي الثيران للون الأحمر في تأجيج غضب الثور ودفعهِ إلى الهجوم. ولا يخفى على أحد مدى تأثير الألوان وأهميتها في حياة الإنسان ، و لكن الألوان لا تستطيع إعطاء ذلك المفعول المطلوب منها إلى بعد أن تُرسم وتُشَكل بأسلوب جميل، فالرسام يستغل ريشتهُ وفنَّهُ في إختيار الألوان ليحاكي من حولهُ ، كأن يقول لهم أنَّهُ حزين أو سعيد أو مهموم وهكذا ، وقد تعدى الرسم ليُشكَل في كل نطق وكلمة رمز محدد ورسمٍ مُعين، فكانت الكتابة. أما النحت فهو إستغلال خصائص المواد كالذهب بلونهِ الجميل وسعرهِ العالي أو الحجارة بقوتها وصلابتها أو الخشب بصلابتهِ وسهولة التعامل معهُ . والنحت في اللغة العربية ما هو إلى إعادة تشكيل وحفر وتنقير، وتنحت المخلوقات عادةً الجبال والصخور والتراب لتُنشيء بيوتاً آمِنة لها ، وترسانات لتحميها ، وقِدوراً وحِلل للطبخ وتجميع المياه ، وتطور النحت ليصبح كوسيلة للكتابة ، ليتم نحت ما يُرسم على الحجارة لتبقى وتدوم. وشأنها شأن اللغاة الأُخرى ، فإنَّ الرسم والنحت أصبح يُستغلان إما لإظهار مفاتِن معينة أو لأغواء الناس بإستغلال صلابة الأحجار وقوتها فتعطي إنطباعاً بالقوة بعد تشكيلها ، فتوهم الجهلة بأنَّ القوة والصلابة من صفاة الآلهة فينجرُّون الناس لعبادتها كرمز للقوة التي يحتاجونها. ومن هنا جاء تحريم الإسلام كذلك لهذهِ الفنون، والتي تُستَغل كسابقتها من اُللغاة في إغواء الناس وصرف أنظارهم عن الخالق العظيم ، وهو الله سبحانهُ وتعالى، جلَّى عُلاه ، وتعالى في سماه.

3- اللغة الحسية: وهذهِ اللغة تعتمد على وجود حاسة اللمس ، فعن طريق تلمُّس بعض السطوح يمكن فهم أو تصور ما كان يريد الطرف الآخر أن يقولهُ ، فعن طريق اللمس يمكن قراءة أحرف وكلمات، وعن طريق اللمس يمكن إستشعار محاكاة الطرف الآخر، وفهم ما يريد الطرف الآخر أن يوصِلهُ للطرف الأول ، ولا يشترط هنا وجود الأطراف المعنيَة في ذات المكان والزمان ، فمثلاً عندما يتم لمس وجه إنسان يمكنني معرفة وضعهُ فيما إذا كان سعيداً أم حزيناً ، وتبقى هذهِ الطريقة بدائية نوعاً ما لكونها تبقى محدودة ومباشرة . أما بالنسبة لأصل هذهِ اللغة فهي تأتي عادةً كنتيجة لفقدان حاسة السمع وحاسة البصر، فيكون الإستشعار عن طريق اللمس هو الرابط المادي المتبقي للإستشعار بهِ ، وإننا لنجد بأنَّ هذهِ اللغة خاصة بالإنسان فقط بسبب لعب دور روح الله( المنفوخة في الإنسان)المحرِك الرئيسي في زرع التصميم والإرادة على البقاء وتحدي الصعاب وعدم الإستسلام ، فقوانين الطبيعة التي تحكم المخلوقات تختلف من مخلوق لآخر، وذلك بناءاً على مقومات العيش التي يمتلكها كل مخلوق، وتَمييُز الإنسان عن باقي المخلوقات يبقى فقط بالروح المقدسة التي يمتلكها، والتي تمَّ شرحها وتوضيح خصائصها في الجزء الأول من هذهِ السلسلة ، أما العقل فلا نرى بعد التمحيص والتدقيق أي ميزة ، فبالنسبة للحجم فهناك بعض المخلوقات التي تتمييز بالضخامة في أجسامها وعقولها، أما الذكاء فليس هناك تعريف محدد لهُ. فهل مقياس الذكاء في قدرة المخلوق على البقاء ،أم الذكاء في المحافظة على مكتسبات ومميزات وعدم فقدانها مقابل لا شيء ، فاللغة بالنسبة لأي مخلوق مكسب عظيم ، نتبينهُ عندما ندرس اللغة الحسية ، وتشتتها وضياعها وتفرقها إلى مئات بل آلاف اللغات لا يدُل على الذكاء بشيء، والذي يدفع بالإنسان إلى تخطي الصعاب وتجاوز المعوقات هي الروح ، فالروح هي الجُزء الرئيسي في الإنسان الواعي لحقيقتهِ والمتفهم لمتطلباتهِ ، فالروح في الإنسان لا تقف عند وضع معٌيين بل تتعداهُ لتتجاوز كل الظروف المحيطة بها مطالِبةً الجسد بالتعويض عن المفقود منها سواءاً مادياً أم روحياً ، فالذي يدفع الإنسان لإستخدام جميع الوسائل المتاحة حتى يُبقي على إتصالهُ بمحيطهُ هي الروح ، لأنَّ المخلوقات الأُخرى تمتلك روح مخلوقة ، فنجدها راضيه مستسلمه لقدرها ، حيث يغلب عليها قانون البقاء للأقوى والأصلح ، وهو قانون أرضي وليس سماوي أو أزلي ، والروح مردها إلى الله ، فهي سماوية وأزلية ، وصفة التواصل مع الآخرين ومحاكاتهم هي صفة أزلية باقية إلى ما شاء الله. ومن هنا كانت الرغبة بالتواصل مع الآخرين ومُلاغاتهم حقيقية ودائمة رغم الصعاب ، لتدفع بالإنسان إلى إبتكار أي وسيلةٍ كانت كي تعوضهُ عمَّا فقد .

4- اللغة الروحية: تعتبر اللغة الروحية من أهم اللغات المستعملة ومن أكثرها تطوراً وفعالية ، فهي أصل كل اللغاة ومنبعها ، وهي كذلك الدافع الأول في عملية توجيه الكائن الحي نحو محاكاة من حولهِ وتدفعه كذلك لإيجاد الُسبل لتحقيق هذا النوع من الإتصال أو ذاك. فاللغة الروحية تصدر من الوجدان الداخلي لتجعلها ذات خصوصية وأهمية عالية، فجمالها وقيمتها العالية تكون بالإتصال الروحي ، بمعنى أن الأطراف المعنية التي تتعامل باللغة الروحية تكون متقاربة ومتحابة على الأغلب، ولا يشترط فيها طريقة الكلام أو نوع اللهجة أو المكان أوالزمان ، فالشرط الوحيد هو الرغبة في المحاكاة والإرادة في التواصل الروحاني، ومن صور اللغة الروحية كالتي نراها بين الطفل وأُمهِ ،أو بين الأقارب، أ والأحبة، أوعلى مستوى فردي كالذي يحدث في الأحلام عند نومنا ، أو عند مناجاة الله والصلاة لهُ، أوذلك الشيء الذي تمَّ وصفهُ بِلُغة العيون . كما يمكن لهذهِ اللغة أن تشمل محاكاة الإنسان للمخلوقات الأٌخرى كالحيوانات والنباتات والجماد كذلك ، كل هذا يندرج ضمن مبدأ المحاكاة أو الإتصال، فأهم ما يمييز اللغة الروحية هو عدم إشتراطها لوجود وسيط مثل الهواء أو الموجات أو الأسطح، فهي في الغالب تكون مباشرة ولا تتوقف على زمان أو مكان، بل هي حرة في زمانها ومكانها ، والمثال على ذلك هو وجود محاكاة أو محادثة بين إنسان في الشرق وإنسان في الغرب كالذي يحدث عادةً بين التوإم ، او الذي يحدث في الأحلام ونحن نُحدث الموتى أوأُناس ليس حاضرين بيننا بل في عالم المستقبل، وأهمها المحادثة الروحية التي حدثت للأنبياء والصالحين في مناجاتهم للخالق والملائكة والتي تمَّ على أساسها رسم الخطوط العريضة للأديان السماوية هكذا .

بعد هذا السرد حول اللغة وانواعها لا يفوتنا ذكر الطرق الحديثة للإتصالات والمحاكاة عن بُعد ، وذلك إما عن طريق الإتصالات السلكية واللاسلكية كما هو معروف ومنتشر، ويشملها كذلك التلفاز والراديو، وكلها تدخل ضمن محاولات الإنسان ليصل باللغة الغير روحية إلى مستوى اللغة الروحية من حيث الدقة والوضوح وعدم إشتراط الزمان والمكان فيها، لذلك نرى سعي الإنسان إلى تسجيل رموز صوتهِ وصورتهِ على مواد معينة لتتجاوز بذلك الزمان والمكان. ففي النهاية يمكن إعتبار هذهِ التقنية الحديثة في إسلوب الإتصال عن بعد ، إنما هي نوع من التقنية والتي تهدف إلى إيصال المشاعر والأحاسيس والرغباة إلى الطرف الآخر، وبمعنى آخر فإننا نستخدم تقنية الإتصالات الموجودة حالياً لإيصال اللغات المتعددة إلى مستوى اللغة الروحية والتي لا تحتاج إلى تقنية لإيصالها إلى الطرف الآخر. وبعد أن تمَّت الإحاطة بأنواع اللغة علينا أن نُذِكر الأُسس والمفاهيم التي تمَّ عليها بناء الُّلغة ، فمن الملاحظ أنَّ هناك إختلاف كبير في اللغة المستخدمة بين كائِن وآخر، ورغم وجود إختلافات كبيرة بين الكائنات بشكل عام ، وذلك من حيث المظهر والتكوين والطبيعة الخلقية فلغة الحيوانات مختلفة عن بعضها البعض ، ولكننا نستطيع أن ندرك بأن هناك لغة مشتركة بين المخلوقات جميعاً لكون خالقهما واحد ، ومصير الوجود كلهُ معلق بمشيئة الخالق سبحانهُ، وعليهِ فإذا كانت بداية الخلق بيد اله المحبة والرحمة الرحمن الرحيم، ومصيرهُ ونهايتهُ مرهونٌ بمشيئتهِ وحدهِ ، فإمكانية التفاهم بمحاكاة جميع خلق الله وارده وتكاد أن تكون حتمية، وما تمَّ سردهُ عن نبي الله سيدنا سُليمان وما كان من شأنهِ في مخاطبتهِ لجميع خلق الله من إنس وجن وحيوانات من طيور ونمل وغيرهما إنما هو تصور مسبق لحياة أهل الجَنَّة ، أو سوف تؤول إليهِ الأرض قبل يوم القيامة عندما تظهر الدواب مكلمة بني البشر( وذلك كما جا في أشراط الساعة عن رسول الله عليهِ أفضل السلام وأتم تبجيل) وهذا ما نلاحظ بوادره من تقارب شديد بين الإنسان والحيوان وفي زمننا هذا بالذات ، حيث يُلاحظ وجود نوع من التفاهم بين الطرفين قي أمور مُحدده ، وإننا لنراها إلا لبدايات التفاهم بين جميع سكان الأرض .

فكيف نفسر رغبة بعض الناس في الإكثار من الجمع بينها و بين الحيوانات الأليفة، وبالمقابل الإقلال من تقاربها مع بني جنسها من بني البشر ، لدرجة إننا لنسمع وجود توريث الحيوانات وبمبالغ هائلة من بعض الأثراء وحرمان الإنسان الفقير المحتاج لها.
ومن ناحية أخرى فإنَّ هناك الكثير من التقارب الملحوظ بين الفصائل الحيوانية وفي زماننا الحالي بالذات ، ويعود ذلك إلى حرص بعض البشر على تقريب الحيوانات من بعضها البعض، وهذا يكون إما لأسباب مادية كالذي يحدث في السيرك ، أو لأسباب شخصية حيث يجد بعض الأشخاص نوع من المتعة والسعادة عندما ينجحون بكسر الحاجز الذي يُبقي كل سلالة على حِدة وبعيدةً عن الأُخرى ،  كإيجاد تقارب بين القِطة والكلب ، أو بين القِطة والفأر،أو بين العديد من الحيوانات المفترسة والحيوانات اللأليفة، وهذا ما يحدث في السيرك على الأغلب .

ومن بين فوائد هذهِ العلاقات هو إستحداث سُلالات حيوانية ذات صِفات خاصة مثل البغل ، والذي هو نتاج وجود نوع من المحاكات والتفاهم بين الحصان والحمار قد تتطور إلى تزاوجهما وحدوث الإنجاب ، رغم كونهما حوانان مختلفان بالمنظر والمواصفات ، ولكنهما من فصيلة واحدة ، فهذا من بعض فوائد إختلاط الأجناس الحيوانية بالنسبة للإنسان.

مما سبق شرحهُ بخصوص اللغة وأنواعها نستنتج بعض النقاط المهمة وهي كالتالي: 1- أساس اللغة هي رغبة الأطراف في المحاكات لما يشملها من تبادل الآراء والأفكاروالرغبات 2- اللغة الأساسية هي اللغة الروحية، أما اللغاة الأخرى فهي لغات تفرضها طبيعة الحال. 3- وجود أصل وقواعد وأُسس تعتمدها أي لغة ما ، وذلك لتتجاوز سوء الفهم والمغالطة في

   توصيل المعلومة، مما يعطي لكل حرف أو كلمه دلاله هامة في وجود الكائن الحي.

4- وجود اللغة بين الأطراف يساعد على إثبات وجودها ، فأي كائن مهما كان قدرهُ بحاجة إلى

   لغة لإثبات وجوده ، فعن طريق اللغة يتم تحديد شخصية ذلك الكائن ، وبالتالي معرفة معالمهٌ.

5- وجوب البحث عن أصل ومنبع أي كلمة أو حرف في اللغاة الإنسانية ، وذلك قبل إعتماده

   أو التحدث بهاِ ، وإهمال هذهِ القاعدة الأساسية يؤدي إلى ضياع اللغة وتشتتها كما هو حال
   اللغة في وقتنا الحالي ، فإننا لنجد آلاف اللغات والمصطلحات والمفاهيم ، مع إننا كجنس
    بشري بحاجة إلى لغة واحدة فقط ، فوجود لغة واحدة بين جميع شعوب الأرض إنما يدل
   على الفهم والوعي لواقع الإنسان، أم إنفراد كل إنسان أو مجموعة بلغة خاصة ،  فهذا دليل
    التخلف والضياع الفكري ، والذي  يؤدي إلى الإنعزالية والتفرقة والضياع الإجتماعي ،
    وبالتالي إلى العنف والتطرف والذي  ينتهي بتدمير الذات والوصول بالإنسانية إلى الحظيظ
    في تعاملها مع بعضها البعض.
6- جميع أللغات أصلها لغة واحدة ، وجميع المفاهيم تُعبِِّر عن مبدأ فكري واحِد ، وجميع
    المصطلحات تخدم قضايا محددة ، بمعنى أنَّ الدين في جميع اللغات هو ذات الدين ، ومفهوم 
    الدين الفكري هو واحد في جميع الشعوب والملل، وبالتالي مصطلح الدين يخدم قضية واحدة
    في جميع العقائِد والإتجاهات الفكرية.
          

وبعد أن تمَّ دراسة اللغة بشكل مُفصل ، نستنتج بالنهاية بأنَّ اللغة الصوتية الدارجة حالياً ما هي إلا عبارة عن مخارج صوتية محددة ، تصدر بصورة إرادية ، ويشترك فيها العديد من الكائنات الحية المعروف لدينا والغير معروفة. وإن وجود اللغة عند الإنسان على وجه الخصوص إنما جاء لكونهِ إحدى وسائل التعبير الصوتية ضمن العديد من وسائل التعبير البشرية منها الصوتية والحركية بالإضافة إلى الإيحائية والفنية والرمزية والكتابية. وتعريف التعبيرهو ضرورة حيوية تتيح لنا إضهار ما يلوج في داخلنا من أفكار ومشاعر. أما الميكانيكية في اللغة الصوتية كرد فعل إنساني أمام التحديات والمتغيرات التي تواجهها البشرية ، تتلخص بكونهُا عبارة عن مخارج صوتية محددة مصدرها الهواء المدفوع للخارج عبر الأوتار الصوتية الموجودة في حنجرة الإنسان ، فهذهِ الأوتار تُحمل الهواء موجات صوتية مختارة ولقد تمت بحيث يتم من خلالها نقل فكرة ما أو رغبة ما لشخص آخر أو مجموعة أخرى من البشر،إذاً فهي محدودة ولا تستطيع أن تُعبِّر عن كل ما يجول في خاطر الإنسان بسبب إنحسارها ضمن مقدرة المصدر نفسهُ على التعبير وعلى إيصال المعلومة الصحيحة للآخرين. لذلك نجدها مختلفة من حيث النغمة وطريقة النطق ومخارج الأصوات من إنسان إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى ومن شعب إلى آخر وهكذا. أما كوننا نحن بني الإنسان بحاجة لوسائل تعبير فذلك طبيعياً بسبب حاجتنا للتواصل الإنساني بمعنى أن الإنسان كمخلوق من خلق الله لا يحتاج لأي وسيلة تعبير لو كان منعزلاً في حياتهٍ عن الآخرين ، ولكن الإنسان مخلوق إجتماعي ، يحرص على العيش في مجتمعات ذات أُسس ونٌظم معينة وذلك يعود لكونهِ مخلوق ذو طبيعية قيادية ومتميزة أمام الخلق أجمعين . هكذا خلقُ الله جلَّ وعلى الإنسان عندما كان في الجنة وهذا الذي يجب أن يكون عليهِ في الأرض وهذا الذي يسعى الإنسان على إيجاده ، وهذا هو الذي سوف يكون بمشيئة الله ، عاجلاً أم آجلاً. وبناءاً على ما تقدم شرحهُ كانت حاجة االمخلوقات جميعاً للمحاكاة والتواصل عن طريق اللغة، ففي النتيجة لا يستطيع أي مخلوق أن يعيش بمفردهِ والسبب وبكل بساطة يعود لكونهِ مخلوق، فالفرق بين المخلوق والخالق هو أنَّ الخالق لا يحتاج للمخلوق، أما المخلوق فهو بحاجة للخالق ولا يستطيع أن يستمر بدونهِ لكونهِ كيان مُستحدث ولا يتمتع بالإستقلالية لعدم قدرتهِ على الخلق ، ففاقِد الشيء لا يُعطيهِ كما هو معروف . أمَّا إختيار المخلوق للغة ما من حيث النبرة والطريقة والإسلوب ، إنما جاء نتيجة لعوامل وظروف بيئية محددة أحاطة بذلك المخلوق فأنتجت هذا النوع من التصرف ، فصوت الأسد يناسبهُ تماماً كأسد ، وصوت الحمار يُناسبهُ كحمار ، وكذلك نقيس أصوات المخلوقات جميعاً، دليلنا على ذلك نجدهُ من خلال تجربتنا في إستبدال الأصوات المعروفة وخلطها بالإسلوب الذي نُعطي كل صوت نعرفهُ لحيوان مختلف في الصوت والصورة . فماذا يكون لو أعطينا صوت الحمار للأسد وصوت الأسد للحمار مثلاً، بالتأكيد سوف تختلف صورة الحمار في نظرنا عمَّا هي عليهِ وكذلك الحال بالنسبة للأسد. أما إذا كررنا التجربة ذاتها ولكن مع الإنسان فنجعل رجل من أفريقيا يتكلم الصينية ، ورجل من اليابان يتكلم البدوية العربية ، ورجلٌ من الألاسكا يتكلم الأفريقية ، لما إختلفت نظرتنا لهؤلاءِ الرجال ككيان ، وإنما قد نجد بعض الغرابة في التصور ، والسبب يعود لعدم إعتيادنا على رؤية هذا الوضع أو هذا التوافق بين الأفريقي والصيني والبدوي فالأمر لا يعدو كونهُ أمراً مألوفاً أم غير مألوف وبمجرد تغيير الرؤيا لا يعود هناك أي إستغراب ، والدليل على ذلك ما نعرفهُ عن الولايات المتحدة الأمريكية ، وهي الدولة التي كان أساس منشائها يعتمد على خلط الأجناس البشرية بعضها ببعض لتكون المحصلة دولة تضم جميع الأعراق والأجناس البشرية ويجمعها لغة واحدة وأرضُ واحدة وقيادة واحدة فينصهروا مع بعضهم البعض ليكونوا شعب ُ واحد وإنتماء واحد، لدرجة أننا لنجد الأغلبية المطلقة قد تناسلت وإنخلعت عن إنتمائها القديم ، وإنصبغت بصبغة جديدة رافضة أي صفة أو أثر يمكنهُ أن يعزلها أو يٌفرقها عن وضعها الحالي، وعندما نحاول أن نبحث في الأسباب نجد بأن هذا الوضع هو الوضع المثالي والصحيح ، وبأنَّ الوضع القديم ألذي يَعزل الجنس البشري إلى ألوان وطوائف وملل وعشائر وإنتمائات وتوجهات ، هو الوضع الخاطيء والذي لا بدُ لأي إنسان أن يرفضهُ كواقع ويستجيب للتغيير. مما سبق شرحهُ بالنسبة للإنسان نستنتج بأنَّ دواعي اللغة في الإنسان تختلف عن ما نعرفهُ بخصوص المخلوقات الأُخرى . فعندما نعود للكتب السماوية والتي هي بالنسبة لنا المرجع والمستند والحقيقة، ونقراء عن بدايات خلق الإنسان ، نجد بأنَّ هناك نص صريح وواضح يوضح بدايات اللغة والتعلم عند الإنسان ، ونجد هناك أيضاً صفة العالِم والمتعلم ، وصفة العِلم من حيث مجالهِ وحدودهِ وصفتهِ. ففي قولهِ تعالى عن بداية فكرة خلق الإنسان ، حيثُ جاء في القرآن الكريم: وإذ قال ربُك للملائكة إني جاعل في الأرضِ خليفة ، قالو أتجعلُ فيها من يسفك الدِماء ونحن نسبحك ، قال إني أعلم ما لا تعلمون، فعلَّم آدم الأسماء كُلها ثُمَّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بإسماء هؤلاء إن كُنتم تعلمون ، فقالوا سُبحانك لا عِلم لنا إلا ما علمتنا إنك إنت الفتاح العليم ، فقال إنبئهم بأسمائهم فلما أنبئهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض

نفهم من هذهِ الآية الكريمة بأنَّ عملية جعل الإنسان خليفة الله في الأرض ، إنما كانت بسبب مشيئة الخالِق في إعادة المصداقية للإنسان أمام الخلق أجمعين بعد أن فقدها نتيجة وسوسة الشيطان له ، حيث أصبح الإنسان بعدها في وضعٍ صعب وهو المخلوق الوحيد الذي أمر الله الخلق أجمعين بأن يسجدوا لهُ بعد سجودهم لله .

السبب الذي يدعونا لهذا التفكير هو تشكيك الملائِكة لقدرة الإنسان على تولي مهام عظيمة كأن يكون خليفة الله بالأرض ، وهو المخلوق الذي كرَّمهُ الله وأعزهُ بنفخةٍ من روح الله ، فقابلهُ بالعصيان لأوامر الرحمن لمجرد إستماعهِ لوسوسة الشيطان . فسؤال الملائكة وإستغرابهم لقرار الخالق الديَّان إنما بُني على ما حدث للإنسان في الجنَّة ، فهم يتوقعون بأن يصغي الإنسان مجدداً لوسوسة الشيطان ، فيقوم بالعمل على تدمير نفسهِ وتدمير غيرهِ عن طريق سفك الدماء وتدمير الأرض كنتيجة لأستماعهِ لكلام عدوهِ اللدود. أما سبب إصرار الرحمن على إنتداب الإنسان كخليفة في الأرض هو علمهِ بحقيقة الإنسان وبالتالي علمهِ بقدرة الإنسان على تصحيح خطئهِ وبالصورة التي تجعلهِ يستحق الثقة العالية التي وضعها الله فيه بأن جعلهُ من المُكرمين في جنَّات النعيم . الذي نُريد أن نتوصل إليهِ هنا بأنَّ الإنسان كمخلوقٍ سماوي قد أنتدب من قِبل الرحمن ليكون خليفة في الأرض ليصحح مسيرتهُ وليعزز مكانتهُ أمام الخلائق. إذاً فالمشكلة ليست في الأرض كمستقر ، فالأرض وجميع من فيها من خلائق إنما هم مستمرين في طاعة الرحمن ولا يعصونهُ أبدا، إنما المشكلة في الإنسان نفسهُ. ولمجرد أن يعود الإنسان ِلعِلمِ الله الذي علَّمهُ إياه أول مرَّة ، يكون من أحسن خلق الله وأعظمهم . فقولهِ تعالى (وعلَّم آدم الأسماء كُلها ) إنما جاء للدلالة على العناية الإلهية المباشرة من الخالق بنفسهِ بتعليم الإنسان ما لم يعلم وهو القادر على ترك الإنسان ليتعلم بنفسهِ ، ولكنهُ قال في كتابهِ العزيز بأنَّ الخالق الواحِد الأحد قد قام بالتفضُّل على الإنسان مَّرةٍ أُخرى ، فالأولى كانت بنفخ بعض روح الله في الإنسان ، أما الثانية فكانت بتلقي الإنسان العِلم من الخالق سُبحانهُ شخصياً ، ليكون علمهُ بعدها أعظم عِلم وأكمله وذلك كما تمَّ شرحهُ وتفسيرهُ في الجزء الأول من هذهِ السلسلة . كيف لا وكان الله خالق الكون وبديع السماوات والأرض هو المُعلم الأول للإنسان. وإننا لنجد في سورةِ القلم خير بيان للكيفية التي تعلَّمَ فيها الإنسان ، ففي هذهِ السورة العظيمة كباقي سور وآيات القرآنِ الكريم نلاحظ بأنها قد أُرسلت لتؤكد في الإنسان خاصية التعلم والتعليم وبالتالي حددت الجهة المؤهلة والوحيدة للقيام بالتعليم ، ثمَّ أتبعتها بالكيفية التي يجب أن يكون عليها التعليم ، لتعود وتُبيِّين فجور وكفرالإنسان بأنعُمِ الله وتنكرهِ لفضل الله العظيم ، وتبين بعدها فضل الله ورحمتهِ بتوضيح طريقة عِلاج الوضع الخاطيء وتصحيحهُ والعودة إلى جنب الله ودعوتهِ للسجود والتقرُّب من الله وعدم إطاعة وساوس الشيطان المُضلله. والآية كما جاءت في الذِكرِ الحكيم بعد أعوذُ من الشيطانِ الرجيم ، بسمِ الله الرحمن الرحيم: إقراء بسم ربِكَ الذي خلق ، خلقَ الإنسان من عَلق، إقراء وربُك الأكرم ، الذي علَّم بالقلم ، علَّمَ الإنسان ما لّم يَعلم ، كلا إن الإنسان ليطغى ، أر رآهُ إستغنى ، إن إلى ربِّك الرجُعى ، أرأيتَ الذي ينهى ، عبداً إذا صلى ، أرأيت إن كان على الهُدى أو أمر بالتقوى ، أرأيت إن كذَّب وتولى ، ألم يعلم بأنَّ الله يرى ، كلا لإن لم ينتهي لنسفعنَّ بالناصية ، ناصيةُ كاذِبةُ خاطِئة ، فليدعوا ناديه، سندعوا الزبانية ، كلا لا تطيعهُ ُ وأسجُدُ وإقتِرب . صدق الله العظيم. حيث شاء المولى القدير أن يبدء هذهِ السورة الكريمة بفعل أمر وهو ( إقرأ) ، وهذا الفعل بالذات يفيد الحسم بالقول الذي يدفع المتلقي للقيام بأمر في شأنه أن ُيفيد المأمورالحائر والضائع في بحثهِ عن شيء ما ، ليكف عن التردد والتأمُل والشعور بالضياع فيجد الحل في القراءة ، وليست أي قراءة ، بل القراءة التي تبدأ بأسم الخالِق وهو الرب العظيم ، ولقد تمَّ إختيار البسملة بكلمة ربِك عوضاً عن كلمة الله أو الرحمن أو أي تسمية أُخرى للواحِد الديَّان ، وذلك لكون كلمة الرب مصدرها المرُبي ،والمربي هو الإنسان الذي يهتم بشوؤن رعيتهِ إهتماماً كاملاً ، فلا يدعهم يحتاجون لأحدٍ غيرهِ ، وكان المولى يأمر الإنسان بالقراءة من مصدر واحِد موثوق وقريب إلى نفس الإنسان ، وليس من أي مصدرٍ كان ، فإختيار الكلمات والأفعال في القرآن جاء بإسلوب دقيق جِداً ليعطي للمعاني والأحرف أكبر تأثير ممكن عند المُتلقي ، وذلك لكي لا يكون لهُ حُجة من بعد البيِّناتِ والرُسل . ولا يفوتنى أن نُذكِّر بخصوصية هذهِ السورة الكريمة كونها أول سورة قد أنزلها الواحِد الأحد على نبيهِ المصطفى محمد إبنِ عبدِ الله (عليهِ أفضل السلام وأتم تسليم) وهو في الغارلتزيل ما كان بنفسهِ من حيره وتأمل وعُزله قد رافقتهُ لفترة طويلة وهو يتأمل ويتهجَّد ، فكانت من إختيار الخالِق الوهاب لتبعث في نفس ذلك العبد الحائر، الإستقرار والأمان ليستجيب من بعدها لأوامر الرحمن في المباشرة بأعمال الرسالة بعد أن تمَّ إختياهِ ليكون سيد المرسلين وخاتم النبيين . إذاَ ففي هذهِ الآية الكريمة السر الذي حول إنسان أُمي لا يتمييز بشيء عمَّن سواه سوى بصدقهِ وأمانتهِ ورِقة مشاعِرهِ وأخلاقهِ العالية ، إلى رسول ونبي وسيد خير أُمةٍ أُخرجت للناس . فكانت نقطة التحول التي لا رجعة فيها ، وكانت البداية ، وكانت الهِداية ، وكانت الكلمة ألتي صحَّت الضمائر وهي ( إقراء) ، فما سِر هذهِ الكلمة ياتُرى؟ لعل كل من يعرف القراءة ، يعرِف هذهِ الكلمة ، وكل من لا يعرف القراءة فهو يُردد. ورسول الله وخاتم النبيين لم يكن بقاريء، وهذا بالفعل الجواب الذي كان على لِسان نبيِ هذهِ الأمة عندما أخبرهُ جبريل بأول أمر من ربهِ ، إذ قال عليهِ الصلاة والسلام : ما أنا بِقاريء وبما أن هذهِ الكلمة كانت المدخل إلى قلب النبي الكريم ، وإلى قلب كل متعبِّدٍ مؤمن ، كان في تكرارها أمام المصطفى ( صلى الله عليهِ وسلم ) افضل وسيلة لتطهير النفس وتنقية الروح حتى تستعد لتقبل الخير كُلُّهُ من منبع الخير. إذاً ففعل الأمر إقرأ هو أول فعل وأول أمر، وأول معلومة ، وأول إتصال رباني بخاتِم النبيين وسيد المرسلين ، ليعلن الخالق القهَّار من خِلالها عن آخر الأنبياء والرُسل مُحَمَد إبنُ عبدِ الله عليه الصلاة والسلام ، وعن بداية عهد جديد من الدعوة إلى التوحيد في ضِل الإسلام المجيد ، وعن جيل جديد من الأولياء الصالحين الموالين للحق المُبين، وعن عهدٍ جديد من الخير والرحمة للناس أجمعين ليظهر الحق ويزهق الباطل لأنَّ الباطِل كانَ زهوقا . لذلك ففي فعل الأمر( إقرأ) كل الحقيقة التي غابت عن أعين الجاهليين ، وفي فعل الأمر( إقرأ) كل الخير الذي يطمح إليهِ الخيرون ، فالذي لا يستجيب لهذا الأمر يكون من الخاسرين. فما أصل وحقيقة هذا الفعل يا تُرى ، ولماذا تمَّ إختيارهُ بالذات حيث كان من الممكن أن يقول لرسولهِ الكريم على سبيل المثال ( رِّدِد) لكون الرسول العظيم لم يكُن بِقاريء أو أن يقول لهُ إفعل كذا وكذا دون مقدمات ، فهناك الكثير من الأمثلة الموجودة في الكتب السماوية التي تشرح بداية الإتصال بين الخالِق العظيم وأنبيائهِ المُرسلين ، إذاً فلماذا إقرأ. إنَّ فعل الأمر( إقرأ) قد جاء من قرأَ يقرأُ فهو مقروء، والمصدر هو قراءة والإسم قاريء وقد يكون أصل الأسم قد جاء من قُرَّة العين ، أو من القرار أو مقر أو إقرار وهناك أيضاً إقتِدار . فكل هذهِ الكلمات والمعاني تدُل على المركزية من حيث المكان وعلى حَسِم أمر ما من خِلال فِعل الأمرهذا. فبمجرد أن يكون هُناك إختِلاف أو تذبذب أو تردد في مسألةٍ ما ، فبأصدار أمر إقرأ إنما يكون لحسم المسألة من خِلال قِراءة معينة لأُضافة إلى معلومات الفرد شيئاً جديداً أو صحَّح في فكرهِ قناعة خاطئة أو أُعيد ترتيب مسائل مُعلَّقة في ذهنهِ. فمعنى القراءة هو تفحُص بدقة شيئاً ما سواءاً كان ذلك الشيء جسِم معيِّن أو كتابة مفهومة أو رموز معروفة ، فالَشرط هُنا هو المعرفة المُسبقة بطبيعة المقروء مثل المخطوطات كنوع مُعيَّن من الكتابة أو مثل المحسوسات كالأجسام المادية أو مثل البديهيات كإستخدام الألوان والرموز . إذاً فالمعرفة المُسبقة بطبيعة المقروء مشروطه حتى يتم الوصول إلى الهدف من القراءة. من هنا نستنتج بأنَّ الحالة النفسية والعلمية التي كانوا عليها الأنبياء والرُسل بشكل عام عندما أتاهُم أمر الله قد أهَّلتهم لفهم وتلقي الرسالة وبالصورة الصحيحة ، وكأنَّهم كانوا بإنتظار هذهِ الإشارة أو الأمر ، وهو ما نُلاحِظهُ عند دِراسة سيرة الأنبياء والصالحين وبالأخص في الفترة التي سبقت الرِسالة أو النبوة بقبل قليل . ولا يفوتنا بأن ننوه هنا بطبيعة العلوم والمفاهيم التي كان أغلبية اللأنبياء والرُسُل يتمتعون بها ، فهذهِ العلوم والمفاهيم كانت غنية بالعلوم والمفاهيم الروحية وفقيرة بالعلوم المادية أي إنهم كانوا روحانيين على الأغلب ، وهذهِ الخاصية قرَّبتهم إلى الله بدرجة كبيرة لتزيل أي عائِق أو مانِع قد يعيق إتصال العبد بربهِ أو أن يقلل من جدية ذلك الإتصال عند المتلقي. ولِنفهم هذهِ النُقطة المهمة علينا بأن نتصور أن أحدِ من العامة قد تصوَّر أو تخيَّلَ شييءٍ ما ، فما عساه أن يقول ، وكيف يُمكِن أن يُفَسِرذلك الشيء . فبغض النظر عن طبيعة ذلك التصوُّر أو الخيال فإنهُ لا ولن يرتقي إلى درجة اليقين الذي تمتع به جميع الرُسل والأنبياء على حدِ سواء ، فمن منَّا يستطيع أن يقوم بما قامَ بهِ الرُسل والأنبياء من عمل مُتقن ودعوا خالِصة وتضحية دائمة وإنشغالٍ متواصل في سبيل الله وحدهِ ، لا في سبيل شيءٍ آخر. نرى حقيقة هذا الكَلام في أتباع الأنبياء والرُسل ، والذين لا يُقارِن بهم أحدُ من البشر. إذاً فالأنبياء والرُسل لم يكونوا أقرب الناس إلى الله بسبب أموالهم أو أولادهم أو جماعتهم أو حتى علمهم المادي ، بل بسبب علمهم الروحي النقي ، والذي لم يختلط بأي عِلمٍ دنيوي مرحلي. أما الميزة الفريدة في ذلك العِلم الروحي تكون بقُدرتهِ على الرجوع بالإنسان إلى علمهِ الفطري الذي علًّمهُ الله إياه ، وهو ذلك العِلم الذي يُغنيك عن أي عِلمٍ دنيوي ، بل يتفوق عنهُ، فهو العلم الكامل المُكتسب من الله وحدهُ ، والمعرفة النقية الخالصة المُلَقنة من الخالق مُباشرةً. دليلنا الملموس والمنطقي على ما تَقَدَّم هو في إنحسار دعوة وطلب المؤمنين بالله واليوم الآخربالجنة فقط ولم يتعداها إلى شيءٍ آخَر مع العلم بأن كثيراً من المسلمين والمؤمنين بالله واليوم الآخر قد تمتعوا بملذات الحياة المادية ودرسوا علومها وفنونها ، ولكن رغم ذلك لا نرى على سبيل المِثال طبيباً يطلُب من ربهِ أن يبني لهُ مستشفى كبيراً في الجنَّة ، أو مهندساً يطلب من ربهِ أن يكون لهُ شرِكةً هندسيةً في الجَنًة وهكذا، أما السبب فيعود لِقناعة كُل مؤمن الفطرية بأنَّ هُناك عِلوم ومفَاهيم وقيَّم أعظم وأجل بكثير من تِلك التي نعرفها في حياتنا الدُنيا. مما سبق شرحهُ يتضح لنا بأنَّ الأصل هو في العلوم هي الروحية والتي تقودنا إلى العلوم الفطرية التي علمها للإنسان الذي لم يكن يعلم بها من قَبل (إقراء وربُك الأكرم ، الذي علَّمَ الإنسان ما لّم يعلم ). فبمجرد أن يعود الإنسان المؤمن إلى العلوم الروحية وبالتالي إلى العلوم التي فَطَرَ الله الإنسان عليها يكون بذلك قد وصل إلى المنبع وإلى الحالة النفسية والعقلية والجسدية التي تُمكنهُ من إيستيعاب آوامر الخالِق وإتباعها وتطبيقها دون تردد أو أدنى شَك ، وهذا هو الحال الذي كانَ الأنبياء والرُسل رِضوان الله عليهم جميعاً عليهِ ، فهم المُختارون والمُصطفون من بني البَشر جميعاً ، وهُم الذين إختارهُم المولى ليكونوا قادة ومصلحين للناس أجمعين. إذا فعندما كان الرسول الكريم يتعبَّد في الغار وحيداً ، إنما كان يُعزِز في نفسهِ وذاتهِ القناعات التي وصلَ إليها ، والتي تتلخَّص بإنعدام أي قيمة حقيقية للحياة على الأرض من دون أن يكون لها أي تواصل روحاني مع الخالِق . فكانت النتيجة أنَّ الرسول الكريم قد إستجاب لأمر ربهِ بمجرد أن تلقاه فحرص على التواصل وعلى العلاقة وعلى الإتصال القادم من ربهِ ، لنجده قد تعامَل مع الوضع بجديه ودرايه عاليه. يتضح لنا هذا الكلام من ردود فعل الرسول العظيم عندما كان جوابهُ المُتكرر( ما أنا بِقاريء، ما أنا بِقاريء) وكأنهُ يقول هاتي ما عِندك ، هاتي ما عِندك لأنني لستُ بقاريء ولكني بعالِم ما تُريد ( والله أعلم) فكانت النتيجة بأن قام جبريل عليهِ السلام بمُتابعة العمل الذي أُوكِلَ إليهِ وذلك بترديد سورة القَلم أمام الرسول الكريم عليهِ الصلاة والسلام ليحفظها مُعلناً بذلك عن إستعدادهِ لقبول المُهمة مهماً كانت ، فنبيُ الله مُحمَد عليهِ الصلاة والسلام هو خير من يقوم بها الصادق الأمين . وما كان من حال نبي هذهِ الأُمة عندما عادَ إلى بيتهِ وهو يرتعش ويطلب من زوجتهِ أن تدثرهُ إلى بسبب إدراكهِ للشرف العظيم والمكانة العالية والمهمة المُقدسة التي أُوكِلت إليه من قِبل الخالِق العظيم ، والذي إنعكس عليهِ بإختلاط شعور الرهبة مع الفرحة، والخوف مع السعادة ، وهذهِ المشاعر المُتراكِمة والمُفاجئة تولِّد عادةً الرَّعشة في جسد الإنسان . وعِندما نعود إلى موضوعنا الخاص بفعل الأمر( إقرأ) نجد بأنَّ هذا الفِعل قد فتحَ أمامنا باباً من العِلم والمعرفة وأمور لم نكن نُدركها ، فبعد الدِراسة والتمحيص وجدنا ما يلي: 1- إنَّ فعل الأمر( إقرأ) يشترط المعرِفة المُسبقة بحقيقية ووضع المقروء ، وبمعنى أصح بلُغة المقروء . 2- إن الرسول الكريم لم يكُن بقاريء ، وإنما كان لديهِ العِلم والمعرفة الروحية العميقة والتي أوصلتهُ إلى ذلك العِلم والمَعرِفة الكامِلة التي فطر الله البشر عليها ،فإستقبلَ رِسالاتِ ربهِ بِكُلِّ تِرحاب ولم يُشكك للحظة واحِدة بإنهُ الحق من ربهِ. 3- من النقطة الثانية نفهم بأنَّ فعل الأمر( إقرأ) لم يكُن موجهاً للرسول الكريم ، وإنما لأُمَّة مُحَمَّد عليهِ الصلاة والسلام ، وعليهِ فالفِعل إقرأ لم يكن يعني مُجَّرَد القِراءة ، بل على أتباع الرسول ان يقرؤو ويتفحصوا ويتعلموا ، لعلهم يستوعِبوا. نتابِع تفسير الآية الكريمة لنتوقف عند قولهِ تعالى ( إقراء بسم ربِكَ الذي خلق ) ، فمِنَ المُهِم أن نفهم بأنَّ آيات القُرآن الكريم قَد نُزِلت على الرسولِ الكريم لتكون موجهة إلى أُمة الأسلام التي أُوكِلَ أمرُها لرسول الله مُحَمَّد إبنُ عبدِ الله . بمعنى أنَّ هُناك رِسالة من ربِّ العالمين ، ورَسول ، ومُرسَل إليهِ. فالرسالة هي القُرآن ، والرسول هو نبيُ الله ورسولهِ مُحمَّد صلى الله عليهِ وسَلَّم ، والمُرسَل إليهِ هم البَشرية جَمعاء . أما بخصوص الرِسالة المُتمَثِلة بالقرآنِ الكريم فهي كاملة مُكملة ولا يوجَد فيها أيُ نقص ، لأنها من الخالِق ، ولأنها آخِر رِسالة لآخِر الزَمان، وهي خاتمة لِكُلِّ الرِسالات. أما بخِصوص الرسول وهو النبي الكريم ، فإننا نقول ويبقى العِلمُ عِندَ الله ، بأنَّ المكانة والمَنزِلة التي تَمتع بها الرسول الكريم لم تُعطى لأحد من العالمين ، وعليهِ نفهم بأنَّ الرسول العظيم قد وصل إلى مرحلة من العِلم والفهم لم يصلها إليهِ أحد من السابقين أو اللاحِقين وإلى أبد الآبدين ، السبب في قولنا هذا بأنهُ عليهِ الصلاة والسلام وبَعد أن باشَر في الدعوة إلى التوحيد لم يكِل ولم يمِل ، بل الأُمة تَشهد ونحنُ نشهد واللهُ يَشهد بأنَّه أدى الأمانة على خير وجه ، وسَلَّم الرِسالة كامِلةً مُكَمًّلة لم ينقُصها شيء ، وبأنَّهُ نصحَ الأُمة بكُل إخلاص وتفاني ، وجاهَد في سبيل الله بنفسهِ وولدهِ وبِكلِّ ما يملِك ، ونحن على ذلك من الشاهِدين . وعليهِ فالكلام والأوامر التي قَد يُفهم منها بأنَّها موجهة إلى الرسول الكريم من ربِّ العالمين إنما هي موَّجهة إلى عِباد الله المُخلصين من البشر والناسِ أجمعين ، والأوامر والضمائر والحروف والكلمات كانت من الله إلى عبيد الله عن طريق عبد الله المخلص لله مٌحَمَّد رسول الله. بقيَّ المُرسَل إليهِ، وهو كُلِّ عبدُ صالح آمنَ بالله بِكُلِّ صِدقٍ وإخلاص وأخلص لربهِ ولِدينهِ ، وإتَّبع رسولهِ وسار على نهجهِ وسُنتهِ إلى يومِ الدين ، فكانت إقراء موجهة له( والله أعلم).

لذلك جاء قولهُ تعالى  (  إقراء بسم ربِكَ الذي خلق ) بمعنى إقرأ ياعبد الله آيات الله والتي أُنزِلت بإسم الله لِتُعرفك على الله ، الله الذي هو ربك ، والله الذي هو خالِقك ومُبدعك ، لِتُختَم هذهِ الآية الكريمة بقولهِ تعالى( الذي خلق ) لِتؤكِد على كونهِ الخالِق ، وتولِد في نفس المُتلقي علامة إستفهام على الذي خلقهُ الله ، فتأتي الآية التي بعدها لِتؤكِّد بأنَّ الله قد ( خَلَق الإنسان من عَلق ) فمن هذهِ الجُملة التأكيدية نفهم بأنَّ فعل الأمر( إقرأ) إنما جاء ليقول للمتلقي والقاريء بأنَّ عليهِ أن يقرأ بتمعُّن الآيات الخاصة بِخلق الإنسان ، ذلك الإنسان الذي خلقهُ الله من عَلق ، والعلق هو الشيء العالِق ، والمقصود هُنا بالعَلق أو العالق أو المُعلَّق هو للتصغير أو التحقير، فكون الشيء أن يكون مُعلَّق إنما يُقصَد به الضُعف الشديد وعدم الإستقلالية وحاجتهِ الماسة للغير للبقاء. فجائت الآية بمُجمَلِها لِتَدُل على أنَّ الله الخالِق العظيم الذي خلَق ذلك المَخلوق العظيم وهو الإنسان إنما خلقهُ من شيءٍ بسيط وضعيف وهو عَلق ، فالعُلق إنما يُمّثل المَرحَلة الأولى من تكوَّن الإنسان عندما تُخصًّب بيضة الأم من حيمن الأب لتلتصق بعدها بِجِدار الرحِم وتتعلق هُناك،وكأن الله يُريد من لإنسان أن يعرِف قصَّة إلهٍ قام بخلق مخلوق عظيم وجبار من شيءٍ تافيه وحقير ليدل بذلك سُبحانهُ على مَدى عظمة هذا الخالِق في جعل من شيءٍ بسيط  شيئاً عظيماً .

ولا يفوتنا هُنا أن ننوه عمَّا قُلناهُ سابقاً (في الجُزء الأول من هذهِ السلسلة) بأنَّ علينا أن نفٌرِّق بين إنسان الجَّنة وإنسان النار وإنسان الأرض. وفي ما يلي شرح وافي عن طبيعة وحياة كلٍ منهما على حِدة معتمدين على النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وعلى المنطق العقلاني في تحليل الأمور وبالله التوفيق.


                                     حقيقة الحياة في الجنَّة 

تُمثِّل الجنَّة بالنسبة للإنسان بشكلٍ عام ذلك المكان الذي فيهِ ينعم ويرتاح من عناء الحياة على الأرض ، وكما سبق وتحدثنا في الجُزء الأول من هذهِ السِلسلة بأن أساس وأصل هذا الشعور أو هذا اليقين بوجود الجنَّة يعود لكون أبانا نوح وأُمِنا حواء( وهما أول مخلوقان من بني البشر ) قاد عاشا فيها بالفِعل وتمتعا بكل ما توفرهُ للإنسان من حياة مُترفة وسعيدة يستحيل أن توجد لها مثيل أو شبيه على الأرض أو على أي كوكبٍ آخر في هذا الكون . فبمجرد أن تُردد هذهٍ الكلِمة أو ما يرادفها في اللغات الأخرا أمام الإنسان نرى وكأنهُ تمَّ ذِكر الجمال كلَّهُ والكمال كلهُ ، فالجنَّة بالنسبة للإنسان هو ذلك المكان الذي لا ينقصهُ شي ولا يُعيبهُ شيء ، يعيش الإنسان فيهِ سعيداً مرتاحاً لا ينقصهُ شيء ولا يؤثِر عليهِ شيء . ولقد جاء في القرآن العظيم وصفٌ كامل لحياة أهل الجنَّة ، وهذا الوصف قلَّ نضيرهُ في الكتب السماوية المُعتمدة أو حتى في تخيلات الإنسان على مدى التأريخ ، وذلك لأننا نجد في كلام الله وصف كامِل ودقيق للحياة في الجنَّة بسبب حِرص الخالِق على دفِع المؤمنين بالله واليوم الآخِر إلى العمل على نيلها والفوز بها كدار مُستقر ليحيى الإنسان فيها حياتهُ الأزلية بكُلِ معنى الكلِمة، فلقد جاء في القرآن بأنَّ الله أعادَ خَلق جسد إنسان الجنَّة من طين وبصورتهِ الكامِلة وبشكلٍ واحِد أي إنَّ الذكور تتشابه حالها كحال الذكور في المخلوقات الأُخرى كالطيور والأسود وهكذا ، أما الإِناث فسوف تتفاوت أشكالهم وتتنوع ولكنها تبقى بالنسبة للجمال في قِمة الروعة والجمال وكأنَّهُنَّ كما قال تعالى ( حورٍ عين كأكناز اللؤلؤ المكنون ) وبالصورة الكاملة والرائِعة من غيرِ عيب أو نُقصان كأولِ مرّه لقولهِ تعالى ( منها خلقناكم وإليها نُعيدكم ، وعداً علينا إنا كُنا فاعلين ) أو كقولهِ تعالى ( كما خلقنا الإنسان أول مرَّة ) ، وبالنسبة للأطفال فلن يكون في الجنَّة أي إنجاب للأطفال ، فالجماع بين الزوجين سيكون لغاية المُتعة فقط ، بسبب عدم الحاجة إلى التكاثُر أو التناسُل هُناك ، اما بالنِسبة لمشاعر الأم والأب فسوف تتوقف لأنها مشاعر أرضية تخدِم الجنس البشري الموجود على الأرض فقط ، ولن يكون هُناك بمقدور الإنسان أن يُفكِر بهذهِ الأمور لفرط شعورهِ بالسعادة والرِضى ، أما بخصوص ما كان قائماً على الأرض من عِلاقات إجتماعية فسوف يتذكَّر الإنسان ماكان وسوف يكون بإستطاعتهِ إعادة عرض الأحداث الأرضية كما كانت في الحقيقة كفيلم وثائقي حقيقي ، وسوف يتعرف على أنسابهُ وعلى جميع الأحداث وسوف يكون بإستطاعتهِ تذكُر كل شيء وبأدق التفاصيل وبالرغمِ من ذلك فلن يكون هُناك مشاعر الأبوه أو الأخوة أو النسب عندهُ ، لأنَّ كل أهل الجنَّة خلقوا من تُراب ، فهم سواسية في الخلق وتلك المشاعِرالعائلية سوف تكون تأريخ فقط ، ليتذكر الإنسان ما جَرى وما كان ، فيسعد بما كانَ منهُ من صبرشديد ويفرح بنصر الله وبتصديقهِ لوعدهِ ، وبإيمانهِ بالغيب الذي وجدهُ أمامهُ حاضِرا . فقط روح الإنسان ستبقى هي ذاتها التي كانت معهُ على الأرض ، لذلك فهو يتذكر كل ما حدث على الأرض ، فالجسد سيُعاد خلقهُ بالصورة التي تجعلهُ يتناسب ومعيشة أهل الجنَّة .

أما بخصوص هيئة الإنسان فحسب الأحاديث النبوية المؤكَّدة إنها تشبه بُنية إنسان الأرض الكامِلُ البُنية الجسدية وهو في الأربعين من عُمرهِ ، أي كامِل النموعقلياً وجسدياً وروحياً ، وبخصوص حجمهُ فهو كبير بالمقارنة مع أهل الأرض الحاليين حيث يبلُغ طولهُ أربعين قَدماً ( والله ورسولهُ أعلم ) وبسبب تركيبة جسمهِ التي تتناسب مع الحياة في الجنَّة فهي لا تسمح له بأن يجوع أو يعطش أو يمرض أو يتعب ولن يؤثِر فيهِ أي شيء بحيث، فسوف يتوقف إعتمادهِ على الماء والهواء  في العيش ، ما يحتاجهُ هو فقط رضاء الله عنهُ ، وكل ما يحتاجهُ سوف يجدهُ من دون أن يتعب أو يشقى وبفضلٍ من الله وحدهُ لا ألهَ إلا هو سُبحانهُ ،  لذلك فهو لا يمِل ولا يشقى ولن تَصبهُ هُناك أي نجاسه أو قَذاره ففتحة الخُرج ملغية فلن يخرُج منها أي نجاسه ولن يتبول أو يُنزِل المَني بالنسبة للذكور، ولكن متعة الجِماع ستكون أضعاف مُضاعَفة لِكِلى الجنسين بسبب الشعور بالسعادة المُطلقة وبالراحة والحُرية التي لم يعرفها على الأرض ، أما مسامات العرق فسوف تتحول إلى مسامات مِسك وعنبرلأنَّ رائحة أهل الجنَّة طيبة على الدوام  فالله طيبٌ لا يقبل إلا طيبا، وبخصوص النوم فلن يعرفهُ بالجنَّة لعدم وجود الحاجة إليهِ فهو لن يعرف النوم من السعادة ، فأكلهُ وشُربهُ وراحتهُ للمتعة فقط ، أما تنقلاتهِ فسوف تكون بين السماء والأرض وبكُلِّ حُرية ويُسر،  فكل ما عليهِ فعلهُ هو أن يُبدي رغبتهُ ليجدَ نفسه في المكان والزمان الذي إختارهُ هو ، لذلك نجِد بأنَّ الله سُبحانهُ قد خَلق الكواكِب والنجوم بإشكالٍ مُختلِفة ومُتنوعة لتسلية أهل الجنَّة في تنقلاتهم لقولهِ تعالى ( جنَّةٌ عرضها السماواتِ والأرض أُعدة للمتَّقين ).    

وأهل الجنَّة لا يعرفون أي صِفة سلبية من صِفات أهل الأرض كالكذِب والغِش والخِداع والنِفاق ......... وهكذا، فهذهِ الصفات الشريرة المرحلية والمؤقته لا تليق بِسكان الجِنان ، فجميع صفاتهمُ خيِّرة أي دائمة وأزلية لذلك فهم أزليين لا يموتون أبداً بإذنِ الله، فكلامهم طيب وحديثهم طيب وتعاملهم مع بعضهم البعض طيب ، أما مكانتهم بين الخلائِق فهم عِبادٌ مكرَّمون لا يستحقون سوى التبجيل والتكريم والتأهيل من قِبل المخلوقات جميعا لقولهِ تعالى (لا يسمعون فيها إلا سلاماً سلاما) وهم في ذلك مُخلدون بإذن الله ، يعيشون في قُصور مبنية من جواهِر وحُلي متلألِئة ، أسرتهم ومتكأهم مرفوعة ومُستقرة في الهواء ، يخدمهُم فيها غِلمان مُخلدون دائمين الطاعة لهم ، أما وضيفة وعَمل أهل الجنَّ فهي مُقتصرة على عِبادة الواحِد الأحد وإطاعتهِ إطاعة كامِلة ، وتنفيذ أوامرهُ في إدارة شؤون خلقهِ ، لما لهم من قوة وفضل وإحترام أمام الخلق أجمعين بسبب ما عانوه لقاء إيمانهم وتصديقهم للرُسل والذي لا يقدِر أي مخلوق آخر عليهِ. وبخصوص الوصف الذي جاء في الكتب السماوية الأُخرى كالتوراة والإنجيل مثلاً فإننا لنجد الكثير من التناقَُض عند محاولتنا لِربط الوصف مع الحدث مع الفِكر من وراء النص الموجود في تلك الكُتب ، ولا نُريد أن ندخُل في متاهات النقد والنقد المُقابِل ونكتفي بالفِكرة العامة التي لا تُخالِف في مظمونها ما جاء بهِ القرآن الكريم والأحاديث النبوية ، فالإختلاف في التفاصيل لا يؤثِر على المضمون . فكل الكُتب السماوية ومن ضمنها القرآن لا تختلف بوجود الخالِق والمخلوق والجنَّة والنار، إنما الإختلاف في الوصف والتصور والفِكرة من وراء هذهِ المضامين. ولا نُريد هنا أن نُصنِف أو ننقُد هذا الفِكر والأسلوب أو ذلك ، فليس هذا مقصدنا أو من أخلاقنا، فالأساس الذي نعتمد عليه في دراساتنا هو إتباع نهج الرسول الكريم ووحي القرآن العظيم . وكِلاهُما يفرضان الإحترام والتقدير لأهل الكِتاب وبِغض النظر عن خلفياتهِم ومقاصدهم ، فالذي يهمنا نحن المُسلمين هو أن نجد الحقيقة من هذا وذلك ، فنحن مُلزمون بإتباع الحق وقول الحق. وبما أنَّ الله هو الحق ، وما جاء بهِ رسولهِ المُصطفى هو الحق من ربهِ ، إذاً فنحنُ لهُ من التابعين بإذن الله إلى يوم الدين ، ونحن عليهِ لمِن الشاهدين قولاً وفِعلاً وعملاً إن شاء الله العزيز الرحيم. حقيقة أوضاع أهل النار

المقصود من النار هي جهنم ، والمقصود من كلمة جهنَّم هو ذلك المكان المخصص للعذاب والألم الشديدين فقط ،فكُلما أراد الإنسان أن يهَّوِل من شددة ألمٍ ما أو دمار ما أو عذاب فإنهُ يذكُر جِهنَّم أو ما يُرادفها في اللغاة الأُخرى . ولم يردِ في أيٍ من المصادر الموثقة عن وجود مخلوقٍ بشري قد شاهدها أو إقترب منها ثم عاد إلى الأرض ، فكل المصادر تُشير إلى هول العذاب والدمار التي تحتويه بناءاً على ما جاء في الكُتُب السماوية المُقدسة والواجِبة التصديق من عباد الله المُخلصين ، وكأنها تسعى من خِلال هذا التحذير المُستمر إلى إخلاء ذمة الخَالِق جلَّ وعلى من هول وعظَمة العذاب الذي سوف يلحَق بالكُفَّار، فنجد التحذير المُستمر والمُتكرر من جِهنَّم ، كقولهِ تعالى ( وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد [ البقرة 206 ]) ، أو كقولهِ تعالى( متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد[ آل عُمران 197 ] ) ، ومِن صور العذاب قولهِ تعالى (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون[التوبة 35 ] ) ، والسبب في ذلك يعود إلى كون أساس وجود جهنَّم هو للعقاب فقط. فالأصل هي الجنَّة لكونها مقر ومُحيط الخالِق (والله أعلم ) وهي أفضل مكان يُمكن تصورهُ للحياة السعيدة الأبدية المُخلدة ، وهي من العظمة والمكانة المهمة والعزيزة عند الخالِق بحيث جعل مقرَّ من يكفُر بها أوينكر وجودها العكس تماماً أي جهنَّم وبئس المصير، لقولهِ تعالى (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين[التوبة 109 ] ). وبحسب المصادر ذاتها فإننا نفهم بأنَّ جهنم إنما وِجِدت لا حقاً أي بعد خلق السماواتِ والأرض ، وذلك عندما إستلزمَ وجود مكان للعقاب ، حتى يكون كنقيض لمكان الثواب الممثل بالجنَّة ، وهذا كلَّهُ قد تمَّ بعد خلقِ الإنسان فقط ، ولم تكُن جهنَّم قائمه قبل ذلك ولم تُفتح أبوابها للأي مخلوقٍ كان ( والله أعلم ) حيث نستدل من قولنا هذا بالآية الكريمة (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين[التوبة 109 ] ) والسبب الذي إستدعى الخالق لإيجاد يعود إلى ظهور حالة التمرُّد والعصيان التي قامَ بها إبليس عليه اللعنة كرد فعل على خلقِ الإنسان وإعطائِهِ من المميزات ما يجعلهُ سيداً على المخلوقات جميعاً بحيث يستوجب عليهم أي المخلوقات السجود للإنسان بعد سجودهم لله . وهذهِ الحالة تطلبت إستحداث النار لتكون مثوى للظالمين والجاحدين لأنعم الله ، ولا يعني هذا بأنّ الأمر كان مفاجئة أو غير متوقع والعياذ بالله ، بل أن مجريات الأحداث تطلبت أن تُختَتم بجهنَّم ليتناسب مع مُعادَلة الخير والشر ألتي أرادها الرحمن أن تكون كأساس العدل والرحمة ، وكتفعيل مهم لصفات الخالِق وأسمائهِ الحُسنى أمام عبيدهِ وحاشيتهِ التي خلقها وأوجدها بمشيئتهِ وحده، هذهِ إرادة الله الخالِق العظيم وحدهُ ، ولهُ الأمر من قبل ومِن بعد سبحانهُ وتعالى. إذاً فنار جهنَّم حقيقة ، ووجودها حقيقي ، ومهما بالغنا في تصوير شِدة العذاب والألم الذي يُمكن أن يلقاهُ الكافِرون بأنعم الله هٌناك سوف يكون قليل ، فعذاب الآخِرة أشد بكثير من عَذاب الأرض ، لأنَّ أساس جِهنَّم إنما وِجِد للعذاب الخالِص والكامِل من غير نُقصان ، فلن يكون هُناك أي نوع من العذاب وفي أي مكان سوى في جِهنَّم ، المكان الذي لا وجود للرحمة والسعادة فيهِ. عافانا الله وإياكم من جحيمها ونارها وعذابها . أما وبخصوص أهل النار وسكانها فبناءا على ما تقدم وعلى ما جاء في القرآن الكريم يُفهم بأنَّ أهل النار قد أعيد خلق أجسادهم وبتِلك الهيئة التي كانَوا عليها في حياتهمِ على الأرض تماماً ، فهم إذاً لم يُعاد ويُجدد خلقهُم من طين وبأحسن صورة كما هو حال أهل الجنَّة ، أو يُخلق من رحم أُنثى كما هو بحال أهل الأرض ، وإنما يُعاد تكوين الجَسد ولكن بالصورة العكسية التي تحلل بها ليكون بذلك قد تعذَّب عندما تحلل جسدهِ وتعذَّب ضِعفهُ عندما أُعيد تكوينه . أما حُجتنا في هذا السرد تتلخص في سعينا إلى تصور أقصى أنواع العذاب الذي يُمكن أن يُلاقيهِ الكفَّار في جهنَّم ، مع علمنا بعدم إمكانية تصور ذلك لهول الذي يجري في النار والذي لا يخطُر ببال بَشر من شِدة القسوة في التعذيب، مما يستدعينا إلى عدم إعطاء أهل النار أيةُ ميزة حسِنة أو أية صفة تُقربهم من أهل الجنَّة أو الأرض . أما روح أهل النار من البَشر فقَد عادت إلى ربِها بعد أن تمَّ فصلها عنهُ تماماً قبل أن تدخل النار، وذلك نتيجة لإستدعائها من قِبل المولى العزيز القدير بناءاً على قولهِ تعالى (يا أيتها النفس المُطمئِنَّة ، إرجعي إلى ربِكِ راضيةً مرضية ، فادخُلي في عبادي وأدخلي جنَّتي ) لذلك يكون جسد أهل النار عبارة عن جسد مخلوق للتعذيب فقط أي من دون روح لقولهِ تعالى (، و حتى يكون عذابه أضعاف مُضاعفه عن عذاب أهلِ الأرض ، فهو لن يعرف الراحة أبداً ، لِنجدهُ ينتقل من عَذاب إلى عذاب آخر، وكلما أُستُهلِكَ جسدهُ نتيجة الحرق والتعذيب أُستُبدِلَ بغيرهِ ، فحياتهُ ستكون في جهنَّم عذابُ إلى الأبد ، وكلامهُ حسرات وندم واستغاث دون من يكون هُناكَ مغيث أو مُجيب ، أما شرابهُ فهو حميم إي سائِل أحمى من حرارة البراكين ، وطعامهُ الجمر المُشتعِل والشوك والسموم ، يُصفع ويُضرَب ويُحرق على الدوام ، فكُلما َتذكر خطاياه وأفعالهُ الشريرة على الأرض انقلبت عليهِ حسرات وندم . جسدهُ تغمرهُ النجاسه ورائحتهُ نتِنة وشكلهُ مشوه .


من هنا نفهم بأنَّ وضعية الإنسان كمخلوق لا يختلف عن بقية الخلائق إن لم تكن أحسن بكثير ، ففي الأصل كان الإنسان يمتلك لغة واحدة تمكنهُ من التواصل مع جميع خلق الله دون إستثناء ، وعلم متكامل يُمكنهُ من التعامل مع جميع الأحداث ، وحياةُ مستقِرة ومكانةُ مرموقة بين الخلائق. ولسبب ما فقد الإنسان كل هذهِ الميزات ، فمن لغة واحدة أصبحت لهُ الآلاف ، ومن علم متكامل أصبح ضائع بين هذهِ المعرفة أو تلك ، ومن حياةٍ مستقرة إلى قلق وهمَّ وعدم إستقرار، ولن ينجوا من هذهِ اللعنة الإلاهية إلا بعد أن يتوب عن معصيتهِ لله ويعرف خطئهِ ويتعهد بعدم الرجوع إليه مهما كان . ليعود بعدها إلى إمتلاك لغةٍ واحدة وعلم متكامل وحياةٍ مستقرة وأبدية في جنةِ الخلد. إذاً وجود لُغاتٍ متعددة إنما هو لَعنةُ من الله وإغواءٌ من الشيطان لكي ينشر الفُرقة والدمار بين بني الإنسان حتى يكون هناك سفكٌ للدماء ودمارٌ في الأرض كما توقعتهُ الملائكة في الآية الآنِفة الذِكر، وليكون كما أراد الله وكما إقتضاه علم الله بخفايا الأمور، كان الحنين الذي نراه في بني الإنسان إلى الوحدة والتآخي بعد أن جرب الضلم الفراق ، لتكون النتيجة النهائية هي التي أرادها الرحمن بإنتصار إرادة الخيروالمتمثلة في عباد الرحمن ، وإندحار إرادة الشر المتمثلة في عبدة الطواغيت والكُفَّار. من هنا كانت اللغة معلم ومرتكز مهم للإنسان ، فهي مقياس لدرجة إدراك الإنسان لواقعه ومتطلباتهِ ، فكلما إزدادَ عدد اللغات كان ذلك مؤشِر لإزدياد الفُرقة المتبوعة بالحرب والدمار، وكلما قلَّ وإنحسر عدد اللغات كان ذلك مؤشر على إنحسار الفجوة بين الشعوب وإزدياد وسائل التفاهُم والإتصال ، مما يُنبيء بقرب الفرج والسلام الذي تتوق إليهِ جميع الأمم من بني الإنسان. وكما قلنا سابقاً وكما تمَّ توضيحه هنا وسرده وإثباتهِ بأن اللغة بالنسبة لبني البشر شأنها ليس كشأن اللغة في المخلوقات الأخرى . من هنا كان إهتمامنا بشرح هذهِ النقطة بالذات وبالصورة التي رئيناها سابقاً ، فهذا الشرح وهذا الطرح قد قلَّ نظيرهُ في الكُتب الأخرى ، ولا يُعيبنا أن نقول هُنا بأنَّ هذهِ السلسلة من الحقائق قد إنفردت بهذا الطرح لما فيهِ من حقيقة ثابتة يصعب نقضها، ومن دليل واضح يصعب ردَّهُ. ولا نتردد ولا للحظة واحدة بأن نشير إلى ما يدل على إقتراب يوم الحساب ، ففي توحد اللغة سوف تتوحد الآراء والجهود والأفكار ليبرز من خِلالها الرأي الصحيح والجهد المبارك والفِكر المنير، لأن الفرقة في اللغة هي من عمل الشيطان ، الذي حرص دائماً على تفرقة بني الإنسان ونشر أسباب الفُرقة والدمار، أما الوحدة في اللغة قهي من خصائص أهل الجنَّة وعباد الرحمن .


                                   حقيقة العلاقة بين اللغة والدين

قبل أن نبحث عن حقيقة أي علاقة بين مصطلحين لغويين أو فلسفتين أو تفسيرين أو أي نقيضيين علينا أولاً بأن نوجد قاعدة شاملة يتم من خِلالها ربط إي علاقة ببعضها البعض ، بحيث يتم من خِلال هذا الربط فهم العلاقة الحقيقية بينهما وبالتالي فهم الفاصل ومواطن التناقض والخِلاف. وذلك حتى يتمكن الذي يُريد الحقيقة كما هي ناصعة واضحة ، من أن يراها أمامهُ صاطِعة كالشمس ، أما الذي يُريد المُراوغة والتلاعب بالألفاظ والتمسك بتفسيرات وتعليلات لا أساس لها من الصحة فعليه أن يٌعطي البديل ، أو أن يطرح قاعٍِدة مماثِلة وذلك ليدل على حُسن نواياه إتجاه هذا الشأن أو ذاك من الأمور المهمة والتي كانت ولا زالت تلعب دوراً رئيسياً في حياة الشعوب.

أما بخصوص القاعدة فهي كالتالي : إنَّ الأساس الذي تمَّ إعتمادهُ في إيجاد وخُلق الحياة على الأرض هو من نقيضين روحيين هما الخير والشر ، ونقيضيين ماديين هما السالب والموجب . أما السبيل الوحيد لمعرفة الخيروحقيقتهُ ومواطِنه ، هوعن طريق معرفة الطبيعه الأزلية لديه. فمن أهم صفات الخيرهي قابليتهُ على الإستمرار والدوام إلى ما لا نهاية ، ليمنح الخيرين من بني البشرإمكانية العيش إلى أبد الآبدين ، جماعةً أم أفراد ، فكل صفة أزلية أو كل وصف أزلي هو من الخير والخير منهُ وعليهِ فإنَّ كل ما يخدم الإستمرارية ولهُ القُدرة على البقاء إلى ما لا نهاية يكون خيراً ، لذلك إنحسر الخير في الصفاة الحسِنة مثل الحب والرحمة والكرم والعِزة وهكذا. أما حقيقة الشر فيمكن معرفتهُا من خلال طبيعة الشر الغير دائمة والمؤقته، والتي لا يمكن العيش أو التعامل معها إلا لفترة محدودة جداً ، لذلك كان لِزاماً على جميع المخلوقات محاربتها والعمل على دحضها وإسقاطها وتقليص وجودها قدر الإمكان ، فوجود الشر في أي فرد أو مجتمع إنما هو دليل ُ على نهايتهِ وإنكساره ودحرهِ ، لأنَّ كل ما هو مرحلي ومؤقت هو من الشر والشر منه .ُ أما بالنسبة للنقيضين الماديين فلقد تم شرح حقيقتهما مع الأمثلة اللازِمة في الجزء الأول. وبعد أن تمَّ طرح القاعدة ، نعطي بعض الأمثلة لدعمها وتسهيل طُرق فهمها وهي كما يلي: 1- اول الأمثله واعظمها هو الخالق جلَّ وعلا، فالله الواحد الأحد هو أبدي وأزلي ، ليس لهُ أول ولا آخر ، وذلك لأن في الله الخير كُلهُ ، والخير كلهُ من الله ، فالله أوجد الخير وحدد مقايسهُ وأوزانهُ ، وجعلهُ هدف وغاية ، ولن نجد في الخالق أبداً أي نسبة من الشر، فهو سبحانهُ تعالى قد إستفرد بكمال هذهِ الصفة في جلالتهِ ، وإننا لنجد في حُكمهِ الخير كلهُ وفي خلقهِ الخير كلهُ. دليلنا على ذلك وفي الله خير دليل نجدهُ في الإنحياز الدائم للخيرالملحوض والمقروء في الكتب السماوية المرسلة من رب العالمين إلى عبادهِ المخلصين وذلك ليساعد الناس على دحض الشر، أما إلإلتزام الدائم الموجود في الأديان السماوية إتجاه الخير إنما هو إقرار بصفة الله الخيِّرة والمطلقة، لذلك فهو أبدي وأزلي ، وعليهِ كان الشرط الأساسي للحياة الأبدية القريبة من الخالِق العزيز هو أن يكون المخلوق خيِّرتماماً، وأن لا يكون فيهِ أي نسبة من الشر، وحتى وإن كانت هناك أي قابلية للشر فيهِ فلا بُدَّ من تقزيمها وتحجيمها وحصرها بحيث لا يكون هُناك أي فرصة لظهور الشر في أي صورة من الصور ولأي سبب من الأسباب ، فالله طيباً لا يقبل إلى طيبا. 2- عندما نجمع الخير كصفة موجودة في مجتمع ما ، نجد بأن ذلك المجتمع له القابلية على البقاء والإستمرار إلى ما شاء الله ، فليس هناك من سبب لإنهيار المجتمع ، فوجود الخير بين فردين يعزز من وجودهما ومكانتهما ، وعليهِ فهما الوحيدين القادرين على العيش اللأبدي ، شرط إستمرار الخير بينهما ، والعكس صحيح فمجرد دخول الشر بين إثنين إنما يكون دليل فناء ودمار لكلاً الطرفين ، ولا يغر تفوق أحد الأطراف على الآخرفالنهاية لكلاهما محسومة ، أما الإنتصار المؤقت للشر فإنما يعود للضعف في عدالة قضية الخير التي تنتاب الخيرين من عباد الله أحياناً، لذلك فالمؤمن الحق لا يُهزم أبداً ، وكيف يُهزم وفي عيشهِ الخير والسعادة ، وفي موتهِ الإنتقال إلى جنَّةٍ عرضُها السماواتِ والأرض أُعدت للمتقين ، فأين يمكن أن تكون الهزيمة إذاً. لذلك كانت المشكلة في طُغيان الباطل الظاهري فقط على الحق ، إنما لسبب ضُعفٌ في العقيدة والإيمان لدى بعض المؤمنين ، مما يؤدي إلى التخبُط في تقييم الأمورليس أكثر. نكتفي بهذين المثالين بسبب كثرة الأمثلة التي سوف تكون في طيات هذا الكتاب والتي تصب في لب الموضوع نفسهُ. أما ما يخص موضوع اللغة والذي نحن بصددهِ الآن وعلاقتهُ بالدين فإن إستخدامنا للقاعدة السابقة يسهل علينا فهم الأمور والتدرج بالحقائق لنصل إلى مرحلة اليقين إن شاء الله. وعليهِ فكل مصطلح طيب زكي ، يسموا بصفات الإنسان الخيِّرة ، ويرقى بروحهِ وذاتهِ ليجعلهُ يتعالى عن الصغائر والشرائر من الأمورفيحيى حياة سعيدة وهانئة ومستقرة يكون مصطلح أزلي ، بمعنى إن بدايات التعامل به كانت في الجنة. وكل ما هو عكس ذلك كان من الشر فهو مرحلي ومؤقت ولا يعدوا كونهُ نفخٌ في الهواء. فأهم مانقوم بهٍ الآن هو فرز المصطلحات اللغوية السماوية والمقدسة ذات الصفاة الأزلية عن المصطلحات اللغوية الضعيفة والمستحدثة والمؤقته وذلك عن طريق القاعدة آنفة الذكر. لذلك كان مصطلح الدين ولفظهُ من ضمن المصطلحات التي يتكلم بها أهل الجنة لأنهُ مصطلح طيب وزكي وبالتالي فهو أزلي، مما يفسر تمسك الناس به والتمسك بمضمونهِ رغم إختلاف المفاهيم والألسن بين الجنس البشري الواحد ، وبذلك نكون قد عرفنا أصل ومنبع هذهِ الكلمة. وبعد أن عرفنا منبع لفظ الدين نكون قد حددنا توجههُ ومساراته وبالتالي تفرعاتهِ. فبعد أن كان هذا المصطلح دارج في الجنَّة وبمعناهُ الحقيقيى الخالص النقي كدين الله الخالص إنتقل مع آدم وحواء إلى الأرض بعد أن غَضِب الله عليهما ليصيبهُ ما أصاب أهل الأرض من فتن وتحريف وتزوير للحقائق لتغدو من كونها دين الله الخالص إلى دينٌ لغير الله والعياذ بهِ. وبذلك نكون قد عرفنا حقيقة هذا المصطلح ولم يبقى لنا سوى البحث عن تلك التشوهات وتفنيدها ونقضها بالإسلوب الذي يبعد عنها أي لبس أو تحريف وبالله التوفيق. فبعد أن تمَّ الحديث عن اللغة وتفنيدها وتعريفها نتوصل إلى حقيقة كون اللغة شأنها شأن الغرائز البشرية المعروفة، بمعنى أنها قد نشأت إثر حاجة مُلحة في النفس أو الجسد. والغريزة في اللغة إنما هو الشيء المغروز غرزاً في النفس، والذي لا يمكن أن تتجنبهُ أو تهملهُ وبالتالي يتوجب التعايش معهُ ومسايرتهُ ، ويطلق مصطلح الغريزة على التصرفات التي يجد الإنسان نفسهُ مدفوعاً ومجبوراً للتعامل معها وكأنَّ أحدٍ ما قد غرز تلك الرغبة في جسدهِ غرزاً مثل غرز الزرع في الأرض . فمثلاً الجنس غريزة ، محاكات الآخرين غريزة، الرفاهية غريزة، حب البقاء غريزة، الإنجاب غريزة، الأمومة غريزة ، وأن يكون الرجل أباً غريزة، وحنية الأبويين غريزه، وهكذا. ومصطلح الغريزة يطلق على الحيوانات كذلك ، والغريزة في الحيوان تكون واضحة بسبب تهميش دور العقل والفهم فيها ، مع العلم بأنَّ للحيوان ذكائهُ الفطري الخاص بهِ وهو المسؤول عن ما يقوم بهِ من فعاليات حياتية ، والمقصود بالفطري هو كل المعلومات التي أوجدها الخالق تماماً كما خلقهُ الله وفطرهُ أول مرة .

والمقصود بالذكاء الفطري هو فهم المخلوق للأشياء كما أراد لهُ الله أن يفهمها دون معلم والتي تظم جميع المعلومات التي يحتاجها المخلوق والمخزنة في عقلهِ .

فعلى سبيل المثال هناك العديد من الحيوانات وبمجرد ولادتها أو خروجها من البيضة تبدأ بالأكل والشرب ، حيث تبدأ ممارسة العديد من النشاطات دون تردد وكأنها تمتلك الخبرة الكافية لذلك ، خير مثال على ذلك وأقربهُ للإنسان نجدهُ في فرخ الدجاج، الذي يخرج من البيضة ولديهِ العلم في كيفية العيش من بحث عن الطعام المفيد إلى شرب الماء إلى الهروب من الأعداء وتمييزهم ، إلى البحث عن الدفيء والمكان الدافيء للنوم وهكذا، كل هذهِ والمزيد منها تكون في فطرتهِ كما خلقهُ الله أو مرة ، وفي حياة الحيوانات من طيور وأسماك وذوأربع وغيرها الكثير من الأمثلة على مصطلح الفطرة . وقد تُتهم الحيوانات والمخلوقات الأخرى من قبل الإنسان بأنها ليست ذكية ، كونها لم تلجأ إلى تغيير إسلوب حياتها كما يفعل الإنسان ، مع العلم بأنهُ لو راجع الأنسان نفسهُ قليلاً لوجد بأن مطلبهِ للتغيير إنما جاء نتيجة عدم راحة وإستقرار، أما المخلوقات الأخرى فهي مرتاحة ومستقرة . إذا فالمخلوقات الغير بشرية تتبع الفطرة ، فهي إذاً لا تتبع الغريزة ، وعليهِ فوصف الفطرة في الحيوان لا يعني الغريزة . فالفرق بين الغريزة والفطرة هو إن الغريزة شعور داخلي ، يتواجد مع المخلوقات ويدفعها لعمل ما . أما الفطرة فهي معرفه وعلم تواجدت مع المخلوق منذ أن خلق، توجههُ وتحدد مساره ، والفطرة في حقيقتها إنما هي العلم والفهم الموجودة في المخلوق كما أرادها الخالق ، دون أي تشويه أو تحريف . إذاً اللغة غريزة في الإنسان ، وليست فِطرة، والدين فِطرة عند الإنسان ، وليس غريزة. من هنا كانت اللغة مكتسبة ، بمعنى إنها وليدة الحال ، وذلك عند الإنسان فقط ، أما اللغة عن المخلوقات الأُخرى فهي من الفطرة . فالغريزة متغيرة لذلك كانت اللغة عند الإنسان متغيرة ، أما الفِطرة فثابتة لذلك نجد اللغة عند المخلوقات الغير بشرية ثابتة. ولا يفوتنا أن نقول بأنَّ الفطرة عند المخلوقات الأخرى غير قابلة للتغيير، عكسها عند الإنسان فهي قابلة للتغيير ، يشاركهُ فيها الجِن والشياطين وذلك لحكمة إلاهية عظيمة إرتضاها الرحمن. أما السبب كما نراه ويبقى العلم واليقين عند الله هو في التمرُد الذي بدأهُ ابليس عندما رفض السجود للبشر الذي خلقهُ الرحمن ، وإنتهاءاً بآدم وحواء عليهما السلام عندما عصيا الخالِق الديَّان بأكلهما من الشجرة المحرمة التي حرَمها الله عليهم ، وهما بذلك قد خَرجا عن الفِطرة التي خلقهما الله عليها ، أما باقي المخلوقات فلم تجروء على عصيان الله أو التجاوز عن تعاليمهِ وأحكامهِ ، فكانت النتيجة بأنَّ الله قد أبقى على علم المخلوقات الفطري وهو ما نتلمسهُ بالمخلوقات التي حولنا ذات العلم الثابت الفطري والحياة المستقره. وأعطى الخيار بالنسبة للإنسان والجان من بعدهِ ، فإما أن يتوبا ويعودان للفطرة التي خلقها فيهما الرحمن بما تحتويه من كمال ونقاء وثبات في العقيدة ، أو يغيران خلق الله كما يشاءان وليعلموا إلى أي منقلبٍ سوف ينقلبون، فتصبح اللغة إلى الآلاف والأديان إلى المئات والعلوم إلى تشعبات. إذا فالسبب في تحول اللغة من الثبات الفطري كما أوجدها الخالق فيهِ ، إلى التقلُب الغريزي كما تطلبهُ الظروف وتفرضهُ الأحوال ، فيضطر الإنسان إلى مسايرة قومهِ وعصرهِ ، فإذا حكمت الظروف بأن يتحدث الإنسان لُغةٍ ما ويلبس لِباساً ما ويتعامل بإسلوبٍ ما ويعتنق قناعاتٍ ما ، كان هذا شأنهُ ، متخبط ومتزعزع وغير مستقركما هو عليه الآن . هذا ليس عيباً في الغريزة ، فالغريزة إنما وجدت لتولد الواعز والدافع للإنسان نحو أهداف محددة ، فهناك غريزة في الإنسان تدفعهُ نحو إيجاد وسيلة للإتصال مع الآخرين ، وذلك لكي يتماشى مع ما كان عليه عندما فطرهُ الله من العدم وخلقهُ (تفسير هذهِ الحقيقة تجدونها في الجزء الأول من الكتاب .

ولكن الإنسان لا يريد ان يفهم ذلك ، فنجد الإنسان يريد دائماً أن ينتقص من غيرهِ ، فيقلل من شأن المخلوقات من حولهِ ومنهم الحيوانات طبعاً.

وعليهِ فإذا كانت المحاكات في الإنسان غريزة ، فعليهِ إذاً التعامل معها شاء ذلك أم أبى. من هذا المنطلق كانت اللغة عند البشر نابعة من صميم ووجدان الإنسان لترافقهُ في جميع مراحل حياتهِ سواء تلك التي قضاها في الجنة ، أم التي يعايشها على الأرض ، أو تلك التي سوف يحادث بها الخالق الرحمن عندما يسكن الجنان . وبما أنَّ اللغة عبارة عن مصطلحات وأفعال وصفات وحروفٌ وكلمات وهكذا ، كان لكل حرف أو كلمة أو فعل سجل وتاريخ وقصة ورواية ، نتعرف عليها من خلال متابعتها والبحث عن مصادرها ومشتقاتها والأفعال المرتبطة بها والظروف التي تحكمها والأسباب التي أوجدتها. ولكوننا في صدد دراسة كل ما يخص الدين من قريب أو بعيد ، كان لِزاماً علينا البدء بالمصطلح اللغوي للدين ، لنستدل من خلالهِ على حقيقتهِ الخالِصة دون شوائب أو تحريف، من هنا كانت العلاقة بين اللغة والدين، فكلمة الدين في اللغة بشكل عام لها مدلول خاص . فعندما ندرك التأثير المباشر لمصطلح الدين اللغوي على ردود الأفعال الملاحظة من قبلنا على بني الإنسان ، نفهم حينها الأساس الذي يتم به التعامل مع هذا المصطلح من قبل البشر، وبذلك نكون قد تجاوزنا الفوارق اللغوية والجغرافية والتي تقف أمامنا كعائق كبير يحد من مدى إستيعابنا لتِلك الحقيقة. فوجود الدين كمصطلح ومفهوم كان ومازال ضرورياً في تكوين شخصية الإنسان في أي زمانٍ أو مكان ، وذلك منذ أن تمًّ خلقه وإلى ما شاء الله . وبِناءاً على ما تقدم يتحتم علينا بأن نُعرف الدين بالإسلوب الذي يكون مقبولاً لدى الجميع دون إستثناء. فعندما نعود إلى الجزء الأول من هذهِ السلسلة وفي موضوع (حقيقة دور المسلم في محيطه) صفحة 49 تحديداً ، نجد بأن التعريف الصحيح للدين كمصطلح عام هو عبارة عن ( الإنتماء الأخلاقي الحقيقي النابع من الذات البشرية نحو جهة محددة ). فمصدر كلمة الدين باللغة العربية هو من دان يدين قد دانَ فهو مُدين، ودان الشيء بمعنى ألزمهُ فالذي يُدين شخص ما أنما يكون قد ألزمهُ بتصرف مُعين ، والشخص المَدين بفتح الميم هو اللإنسان الذي يكون قد ألزم الآخرين أما برد مبلغ من المال أو بالقيام بتصرف مُعيَّن إتجاههُ.وبما أن الإلتزام هو تصرف أخلاقي ، والإنتماء هو إيجاد روابط روحية أي غير مادية بين طرفين، لذلك كان الدين بكسر الدال هو إلتزام روحي إي إنتماء أخلاقي . أما مصدر كلمة أخلاقي أو اخلاق بشكل عام فهي من خُلق بضم الخاء، والخُلق جاءت من الخَلق بفتح الخاء أو الخَليقة لتدل على بدايات خَلق الإنسان والتي كانت في الجنَّة. لذلك فعند قولنا أخلاق إنما نعني الهيئة الخُلقية الكاملة والنقية التي كان عليها الإنسان عندما خَلقهُ الله ، فإذا نُعِت الإنسان بحُسن الخُلق كان المقصود بأنهُ إنسان أصيل يحتفظ بالصفات الخُلقية النقية التي أوجد الله الإنسان عليها، أما عندما يُنعَت الإنسان بسوء الأخلاق إنما يُقصد بالضرر البالِغ الذي أصاب هيئة الإنسان الخُلقية جراء معيشتهِ على الأرض وإستماعهِ لوساوس الشيطان. وقولنا ( الإنتماء الأخلاقي الحقيقي) إنما نقصد الإلتزام الذي يُمليهِ الخُلق الأصيل النقي للإنسان ، أما قولنا ( النابع من الذات البشرية ) إنما نعني الصادرة من الرغبة الروحية للإنسان التي تحاول أن تعيدهُ إلى الطريق القويم الذي كان عليهِ عندما خَلقهُ الله ، وعندما قلنا ( نحو جهة مُحددة ) أردنى هنا أن نحصر كلمة الدين كوصف للتصرف المطلوب ، بالموصوف وهو الكلمة التي جاءت بعدها ، كقولنا دين الله عندما نعني بالإنتماء الذي تفرضهُ علينا أخلاقنا إتجاه الله الخالق الجبَّار ، أوقولنا دين النصارى واليهود عندما نقصد الإنتماء الأخلاقي إتجاه تلك الأديان السماوية أما عندما نقصد الأديان الوثنية المُلحدة فنحن نقصد اللَبس الذي نشأ جراء إستغلال بعض الأشخاص السيئي الخُلق لجهل الناس بمعنى كلمة الدين ليسخروها في خِدمة أغراضهم ونواياهم الخبيثة ، ليُحَولو بذلك إنتماء الناس الديني نحو الله الحق إلى إنتماء نحو الباطل ، دليلنا هو إصرار تلك الفلسفات والآراء والتكهنات على تغطيتها بمصطلح الدين وعدم الإكتفاء بالوصف الطبيعي لها كونها مجرد فلسفات وتخيُلات لا أساس لها ولا مرجع أو مُستند. ففي النهاية يكون الدين بالنسبة لجميع المخلوقات البشرية إنما هوتعبير عن فعاليات محددة ، قامَ بتحديدها مصدرٍ ما ، وبالتالي كان لزاما على الطرف الأول الإلتزام بها ليكون بذلك قد قام بواجباتهِ الدينيه إتجاه ذلك المصدر. وحرصاً منا على إعطاء موضوع الدين حقهُ من حيث الشرح والتفسير، نباشر بإعطاء الأمثلة والدلالات وذلك لإثبات تعريفنا للدين وبهذهِ الصورة ، خصوصاً وإنَّ هذا التعريف جديد ، ولم يتم التنويه أو الإشارة إليه من قريب أو بعيد، وذلك على الرغم من كثرة الدارسين والباحثين في هذا المجال الهام جدا.ً ولا أريد هنا أن أسرد جميع أقوال أو تعريفات الأشخاص الذين كتبوا في هذا المجال، بل ولن أكتفي بطرح بعضٍ منها، وذلك لإسباب عديدة ، من أهمها هو عدم قناعتي بها، لا من قريب أو بعيد، وحجتي في ذلك هي في عدم وجود أي تقارب بين التفسير المعتمد في هذا الكتاب لهذا المصطلح وبين تفسير الآخرين ، عرباً كانوا أم عجم. فالدين وبغض النظر عن كونهُ مصطلح أو فكرة أو عقيدة أو منهاج أ وغير ذلك من التعريفات التي تجاوزت الحدود والثقافات وحتى الأزمان ، أنما هو حياة ، بل إن الدين هو كل شيء بالنسبة للإنسان، هكذا أرادهُ الله وهكذا سوف يبقى لقولهِ تعالى ( هو الذي إرتضى لكم الدين ) فنحن كبشر لا نستطيع أن نحيى من غير دين ، وذلك بسبب كون الدين هو المصطلح الوحيد في لغة الشعوب والذي عن طريقهُ يتم ربط المخلوق في الخالق ، وبالتالي ربط الفرع بالأصل، وكذلك ربط المخلوقات ببعضها البعض على أساس من القيم والمباديء الفكرية. فبمعرفتنا لحقيقة الدين نكون قد عرفنا حقيقة الخالق، أما في حالة عدم معرفة الدين على حقيقته، نكون قد تخبطنا في طريقة معرفتنا بالخالق ، والتي لا بُدًّ أن تقودنا بطبيعة الحال إلى الإشراك باللهِ، وهو كما نعلم من أكبر الكبائر. هذا بالنسبة للمسلمين ، أما بخصوص الغير مسلمين سواءاً كانوا ملحدين أم موَّحدين فهم في تعريفنا للدين وبالصورة الصحيحة نكون قد جردناهم من حججهم ومن مراوغاتهم وبالتالي من أساليبهم في تضليل الشعوب تحت ساتر الدين ، فلن يكون بعد طرحنا هنا أي منفذ أو طريق للمراوغة والتبجح إن شاء الله ، فإما أن يكون للإنسان دين يتبع ورب يُعبد أو لا يكون لهُ من هذا أو ذاك فهو ظالُ عن دينهِ وكافرُ بربهِ. فمما لاشك فيه بأن أهل الأرض وذلك منذ الأزل قد إتفقوا على مصطلح الدين كباقي المصطلحات مثل الإنسان والحيوان والخالق واللإله والكون والأرض ، ولكنهم إختلفو وتفرقوا وإقتتلوا على تعريفهم.

فعلى سبيل المثال هناك دين الإسلام وكذلك دين المسيحية ودين اليهودية وهما ديانات توحيدية إذا صح التعبير ، وهناك أديان وثنية  كثيرة جداً لكونها إنحصرت بشعوب وقبائل محددة ، نذكر منها دين البوذية ودين الهندوس وما إلى ذلك من أديان تظهر وتختفي.

إذا هناك إجماع شبه عام وإتفاق مقطوع النظير بوجود الدين ، أما الإختلاف العام وعدم الإتفاق الراسخ في عقول البشر فهو في صفة هذا الدين أو ذاك فقط. إذاً المشكلة هنا تكمن في طريقة تعريفنا للدين لا أكثر ولا أقل ، وبمجرد أن نجتهد ونتعب ونحرص على معرفة حقيقة الدين كما هي وكما أوجدها الخالق فينا نحن البشر، نكون قد تخطينا حاجز الفرقة والخصام وإتجهنا بذلك نحو الوحدة والويئام ، لتكون النتيجة في السلام والأمان والسعادة لبني الإنسان ، من هنا كانت الضرورة في تعريف الدين بصورتهِ الشاملة الأصلية وليس بصورتهِ المحدودة والمرحلية. بمعنا إننا حينما نعطي تعريفٍ ما لمصطلحٍ ما علينا بأن نعي أولاً أهمية ذلك المصطلح ، والأهم من ذلك هو معرفة مدى التأثير الذي سوف يحدثهُ ذلك التعريف فينا. فمن الملاحظ حالياً هو عدم وجود إهتمام في دفع الناس للإقبال على معرفة حقيقة الدين .

والسبب في ذلك يرجع إلى عدم تفسير مصطلح الدين بتلك الصورة التي تولد لدى المتلقي الرغبة في معرفة حقيقة ذلك المصطلح، بل أن تعريف المفكرين لهذا المصطلح دفعت بالناس إلى الهروب والإبتعاد عن معرفة الحقيقة وبالتالي الإبتعاد عن الدين ، وبسبب الإبتعاد عن الدين كان الإبتعاد من الله ، والذي تكون نتيجتهُ الأكيدة هي الكفر والعياذ بالله.

ليس نحن الآن بصدد إصدار الأحكام و تلفيق الإتهامات لأي جهة كانت أو بصدد المزايدة الرخيصة ، بل إننا بصدد موضوع هام وحيوي جداً.

ولتقريب الصورة أكثر للقاريء العزيز، نعطي هذا المثال:

إننا نعلم جيداً بأن هناك مصطلح الإله أو كلمة الإله في كل لغة، وكذلك نعلم جيداً بأن هناك إختلاف كبير في تصور هذا الإله لدى الجميع دون إستثناء. قد يجد البعض بأنًّ هذا الأمر طبيعي ، ولا غبار عليه، ولكننا نقول بأنهُ ليس بذلك. ولكي نبتعد عن مواطن الخلاف، لنصل إلى قول فصل في هذا الأمر، علينا بأن نطرح نفس السؤال ولكن نحصرهُ بفترة ما بعد الموت، فهل سيكون هناك إختلاف في إعطاء تصور لله بعد أن يعرفوه تمام المعرفة. ربما يقول قائل بأنهٌ لا يؤمن بوجود الله وبالتالي جوابهُ سيكون فيهِ رأي مخالف، ولكن مهما كثرة الحجج والأقاويل فإنًّ معرفة الحقيقة حينها ستكون حاسمة ونهائية، ولن يختلف عليها إثنين. إذاً فهناك تعريف واحد لله ، كيف لا وهم سيواجهون الحقيقة عاجلاً أم آجلاً ، ولن يفيد في ذلك مماطلتهم ، فالمسألة مسألة وقت ليس إلا، بل إن هناك الكثير الكثير مما قضى نحبهم يعرفون الآن الحقيقة الكاملة حقَّ المعرفة، فأما اللذين إستعدوا لها وتجهزوا بزادها كانت لهم فرحة وغِبطة بمعرفة الرحمن، وأما الذين لم يستعدوا لهذا اليوم فهو لهم عذاب وشقاء، ونهايةِ سوداء.

كيف لا وهم الضالمين لأنفسهم والمستهترين بالله الحق خالقهم ومبدعهم.

إذاً بالنسبة للحقيقة الكاملة والخاصة بكل شيْ فهي موجودة وملموسة بالنسبة للكثير من بني البشر المنتقلين لدار الآخرة، ولا يجوز أن نستهتر بهم وهم الذين أسسوا حضاراتنا وبنوا تأريخنا. أما بخصوص الكافرين بهذا الحق فإننا نقول لهم : سُحقا لكم فإنكم بكفركم هذا تبقوا الخاسرين ، فأي مكسب سيكون للكافرين بأنعم الله عندما يدَّعون بعدم وجود الحقيقة ، وماذا سيكون مكسبهم وماذا ستكون خسارة المؤمنين بالله واليوم الآخر. هل مكسب الكافر بالله في النجاسة والإجرام أم خسارة المؤمن بالحق في الطهارة والأمان، فالمؤمن مُكرم ومعزز في الدنيا والآخرة ، أما الكافر فهو مذلول ومهان في الدنيا والآخرة . وأياً كان إدعاء الكافر وتظاهرهُ بالسعادة والسرورفهذا كلهُ لن يساعده في مواجهة الموت وما ينتظره من بعد الموت ولن يغنيه لعبه وغرورهُ عن مواجهة العذاب الأبدي. أما المؤمن فهو ينتظر الموت إنتظاراً وذلك لفرحتهِ الشديدة وشوقهِ لرؤية ربه،عندما يكون من المخلدين في جنَّات النعيم. وبهذا المثال نكون قد أثبتنا بأنَّ لكل حقيقة أجل ووقت ، فحقيقة الدين واقعة وهي واحدة لا تقبل الشك أو التعديل ، كانت وما زالت وستبقى نور للمؤمنين وعار على الكافرين يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم. والذي نقوم به الآن ليس سوى دحض للحجج الفارغة والأفكار الضعيفة التي أُقيمت عليها جميع الأديان الوثنية مستغلة بذلك جهل الجاهلين ومستفيدة من جبروت الجبارين. إذاً فمعرفة حقيقة الدين مهمة من حيث دعم اليقين عند الناس بخصوص الآخِرة ، فعند تولد اليقين لدى الفرد بهذا الخصوص تستوي أمور حياتهِ ، وتنتظم شؤونه ، وتستقر نفسيتهُ. بعد هذا الشرح والتفسير تتضح لنا العلاقة الوطيدة بين اللغة والدين ، فبعد أن عرفنا بأن اللغة هي وسيلة تعبير ومحاكاة ، أكدنا هنا بأن الدين إنما يُستخدم لتوجيه تلك المُحاكات نحو الإتجاه الصحيح الذي يَخدُم قضية الإنسان وطموحهُ في العودة إلى مُستقرهِ في جنَّاة الخُلد. وبإتباعنا للدين الصحيح نكون قد قيمنا سلوكنا وصححنا مسار الإنسانية جمعاء ، خصوصاً ونحن نرى التخبط الحاصل في جميع المقاييس والأوزان الأخلاقية المتبعة في وقتنا الحالي . والسبب في ذلك يعود إلى التوهان في بحر المعلومات والمقاييس الإنسانية ، وعدم الرغبة في الرجوع إلى الأصل والمنبع يتبعها الخوف من المجهول. إما دواعي ذلك الخوف فتكون محصورة في تفكير الناس المحدود ، لأن الأساس الذي وِجِدَ عليهِ الدين هي في إتساع أفق الكون وما يحتويهِ من كائنات ومخلوقات ، مما يتطلب من الدارس في هكذا شؤون والمتعمق في تلك المسارات أن يعي الفكرة العامة من الوجود بحد ذاتهِ وتسخيرها في خدمة الأغراض النبيلة. ولكي يضبط العاِلم تلك الأمور فإنهُ يحتاج إلى مفهوم الدين في توحيد المسارات في توجه موَّحد ليتم من خِلالهِ ضبط المفاهيم والقيم الإجتماعية الضرورية لهذا الشأن. فمثلاً هناك أخلاقيات في التعامل الإنساني ، أي في تعامل الإنسان مع أخيهِ الإنسان ، وفي تعامل الإنسان مع ما يُحيطهُ من مخلوقات وكائنات حية، قد يكون هو مفروض عليها أم هي مفروضة عليه.